الثقافة الأمنية والشرطة المجتمعية (1-2)
لا يخفى على أحد منا أن الجريمة فى مصر تزداد وتنتشر، كما لا يخفى علينا ما وصلت إليه عقول مرتكبيها واستخدامهم لأنماط وأساليب حديثة كانت نتاج التطور الهائل فى مجال الاتصالات وما أحدثه التطور التكنولوجى، وفى المقابل ما زالت الجهات الأمنية تتعامل معها بشكل نمطى وتقليدى رغم ما شهدته الأجهزة الأمنية من تطورات لكنها فى الحقيقة أقل وأبطأ من عقول مخططى تلك الجرائم سواء الجنائية أو الإرهابية، نرى الآن التفجير بالريموت كنترول والتفخيخ بشرائح الموبايل كما نرى السطو على حسابات العملاء البنكية عن طريق الإنترنت، نرى تطوراً هائلاً فى وسائل ارتكاب الجرائم مع قلة فى الإمكانيات المادية والعددية لدى أجهزة الشرطة النظامية فمنذ اغتيال النقراشى باشا والخازندار وانتهاءً باغتيال النائب العام وأساليب الحماية كما هى تعتمد على رجل الشرطة فقط، لذا كان لا بد من إلقاء نظرة على ما وصل إليه العالم فى هذا المجال ونقل ما يمكن نقله والاستفادة منه عساه أن يكون منقذاً لما نحن فيه، فقد اجتهدت فى البحث عن أفكار خارج الصندوق طبقها وأبدع فيها الغير ووصل بها إلى نتائج مذهلة.
والفكرة التى أتناولها اليوم ليست من إبداعاتى ولا وليدة بنات أفكارى، لكنها واقع مُطبق ومعمول به لدى الكثير من دول العالم، بدأت بطرح تبنته إحدى المؤسسات الأهلية البريطانية عام 1982 بالعمل فى مجال الوقاية من الجريمة تحت عنوان «الشراكة المجتمعية فى تحقيق الأمن الإنسانى»، وفق مفهوم وفلسفة أن الأمن بمفهومه العام يخص المجتمع بأسره، أفراداً وهيئات ومؤسسات ودولة، وانطلقت تلك المؤسسة الأهلية فى نشر فكرة تعزيز الشراكة المجتمعية لمكافحة الجريمة والحد منها وطرق وسبل اكتشافها ومنعها قبل وقوعها وجعلت الهدف الأول لها أن يكون كل مواطن -أى مواطن، دكتور، مهندس، عامل، طالب- هو بمثابة رجل أمن وفرد شرطة فى موقعه وعمله ومنزله.
وقد ساد ذلك المفهوم لدى المجتمع الفرنسى والمجتمع الأمريكى، كل حسب طبيعته وتركيبة تلك الشعوب ووفقاً لاستراتيجيات تلك الدول ومدى درجة الوعى والثقافة التى تختلف من مجتمع لآخر، لكن اتفقت جميعها على آلية واحدة جعلت من مفهوم الشرطة المجتمعية عقيدة راسخة لدى مواطنيها إذ انصب الاهتمام الأول على خلق مناخ تعاونى بين جهاز الشرطة النظامية والفرد وركزت على خلق الثقافة الأمنية التى تقرب المواطن من رجل الشرطة حتى يتسنى لهما المساهمة الفعالة فى ترسيخ ذلك المفهوم كانت نتيجته تغيير الشرطة لأسلوب تعاملها مع المواطنين بشكل جعل الفرد فى المجتمع متفهماً تماماً لحقيقة الدور الذى تقوم به والذى هو فى الأساس حماية أمن المواطن وممتلكاته وكذا حماية الدولة ومؤسساتها التى هى بطبيعة الحال مملوكة للمواطن وقائمة على خدمته، ومن ثم أصبح لزاماً عليه تقديم المساعدة والمعاونة لأفراد الشرطة وفقاً لنظرية الشراكة المجتمعية بينهما.
وأصبحت الثقافة السائدة لدى الجميع أن واجب المواطن تقديم كل العون والمساعدة لرجال الشرطة للقيام بأداء مهمتهم كما التزمت الشرطة النظامية أيضاً بالاحترام التام للمواطن ومعاملته بأسلوب لائق يكفل له المحافظة على حقوقه الدستورية والقانونية ومكتسباته المجتمعية كونه صاحب الحق فى الخدمات الأمنية التى يقومون بها من أجله لدرجة أصبح معها المواطن الإنجليزى عيناً وأذناً وذراعاً لرجل الشرطة يساهم معه فى تحقيق أمن المجتمع الإنجليزى واعتمدت تلك الدول على خلق تلك الروح عن طريق إدخال مادة الوقاية من الجريمة كمادة أساسية فى المناهج الدراسية والمؤسسات التربوية يقوم بتدريسها أحد أفراد الشرطة المدربين على ذلك يساعده فيها أحد أساتذة المدرسة المتخصصين ابتغاء ترسيخ مفهوم أساسى لدى التلميذ مفاده أن رجل الشرطة حامى المجتمع والفرد والممتلكات ومنفذ للقوانين وأن التعاون بين الفرد ورجل الشرطة يهدف فى النهاية إلى الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته.
وقد أكدت الإحصائيات فى تلك الدول تدنى وانخفاض معدل معظم الجرائم مثل السرقة وجرائم السطو المسلح وجرائم الاعتداء على النفس والممتلكات، كما تبين انخفاض معدل جرائم الشباب التى ترتكبها الفئات العمرية من 17 وحتى 35 سنة، وأصبحت دول مثل فنلندا وأستراليا من رواد هذه التجربة المثمرة، ومن ضمن البرامج التى اعتمدتها تلك الدول لدعم وترسيخ ذلك المفهوم أن قامت بإنشاء ما سمى (بنوادى نواب الشرطة) التى أنشئت بمساهمات مالية من بعض رجال الأعمال كان الهدف منها خلق مناخ يتيح الاتصال المباشر بتلاميذ المدارس من الفئة العمرية من 5 إلى 20 سنة وحثهم على الانخراط فى هذا النادى متبنين التركيز على نقاط أهمها:
1- نشر الوعى لدى التلاميذ بمسئوليتهم تجاه المجتمع المحلى.
2- ترسيخ روح المسئولية الجماعية لدى التلاميذ والأطفال وخلق روح التعاون بينهم وبين رجل الشرطة النظامى.
3- إعطاء وتعليم هؤلاء التلاميذ تدريبات مناسبة لسنهم وتأهيلهم للقيام بالدور المنوط بهم.
4- الزيارات المتكررة من رجال الشرطة لتلك النوادى والمدارس والدخول مع التلاميذ فى حوارات ومناقشات داخل الفصول المدرسية لكسر الحاجز النفسى بينهم وبين فرد الشرطة وحتى يتولد لديهم شعور بأن رجل الشرطة منهم ويعمل من أجلهم ويسهر على أمنهم وأمن بلدهم ومجتمعهم.
وقد ترسخ الأمر وزادت عليه هذه الدول السماح بالجمعيات الأهلية التى أقيمت خصيصاً لهذا الغرض فى الأحياء والمراكز والمحافظات قامت بعمل حملات مكثفة لدى المواطنين لخلق روح الشراكة الأمنية المجتمعية وكذا إصدار النشرات الدورية المتضمنة برامج شارحة لهذا العمل التطوعى وآليات محددة لتقرير دور المواطن فى الوقاية من الجريمة والعمل على منعها والإبلاغ عنها قبل حدوثها ومنها جمعيات تخصصت فى مكافحة المخدرات والترويج لها والعمل مع الشرطة بشكل مباشر فى أعمال التبليغ عن الأماكن التى تروج فيها المخدرات والقائمين عليها وكذا عن المدمنين وتوفير إخصائيين اجتماعيين لهم حتى يقلعوا عن تلك السلوكيات الخاطئة بالإضافة إلى إنشاء مصحات خاصة تم تمويلها من رجال الأعمال فى تلك المناطق التى تعالج هؤلاء المرضى مما كان له أبلغ الأثر فى اندثار تلك الجريمة وتدنى معدلاتها بشكل كبير وكانت تجربة إمارة دبى فى هذا الأمر مثالاً يحتذى به إذ قامت بإنشاء ما سمى بمجلس الشرطة الاستشارى لخدمة المجتمع وكذا المجالس الشرطية لخدمة الأحياء التى فتحت عضويتها لجموع المواطنين كما قامت بطرح برامج تكاملية للوقاية من الجريمة تهدف إلى تعزيز روح التعاون بين الشرطة والمواطن وتحفز أفراد المجتمع على ضبط الخارجين عن القانون والإبلاغ عنهم وتعميق مفهوم المشاركة بين الشرطة والمجتمع، كما استنت سنة حميدة بتكريم المواطنين ورجال الصحافة والإعلام الذين أسهموا فى الوقاية من الجريمة والإبلاغ عنها أو كان لجهودهم فضل فى إحباط العمل الإجرامى أو ساهموا فى طرح مواضيع أمنية إيجابية.