عدالة المحكمة الجنائية الدولية

رفعت رشاد

رفعت رشاد

كاتب صحفي

أعطى قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير الدفاع السابق جالانت انطباعا قويا بعدالة المحكمة , فالقرار يحمل معنى إيجابيًا بالنسبة لحياد وعدالة المحكمة الجنائية الدولية، خاصة في السياقات التي تواجه فيها المحكمة اتهامات بالتحيز. ففي حين أن المحكمة الجنائية الدولية غالبًا ما تُتهم بالتوجه نحو دول معينة في أفريقيا والشرق الأوسط، فإن قرارها ضد قادة إسرائيليين قد يُنظر إليه من قبل البعض كخطوة نحو تحقيق العدالة وتطبيق القانون الدولي على جميع الأطراف بغض النظر عن خلفياتهم أو مواقعهم الجغرافية.

والقرار يعزز سمعة المحكمة في نظر المجتمع الدولي، ويُظهر أنها لا تتوانى عن متابعة القضايا ذات الطابع السياسي أو العسكري ضد أي طرف إذا كان هناك دليل على ارتكاب جرائم حرب. في حال تم تنفيذ هذا القرار بنجاح، فقد يُعتبر رسالة قوية تؤكد أن القانون الدولي لا يتأثر بالضغوط السياسية أو الاقتصادية وأن المحكمة تسعى لتطبيق العدالة دون محاباة.

كانت المحكمة أصدرت في لاهاي مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت، بتهم تتعلق بجرائم حرب ارتكباها خلال الصراع الأخير مع قطاع غزة وتصعيداته العسكرية في لبنان. هذا القرار الذي أثار جدلاً واسعًا داخل الأوساط السياسية والديبلوماسية، يثير عدة تساؤلات حول تداعياته على الأوضاع الداخلية في إسرائيل وعلى سياساتها العسكرية، فضلاً عن تأثيره على العلاقات الدولية، خاصة في ظل الدعم الغربي القوي الذي تتلقاه الدولة الصهيونية .

فالقرار يعد بمثابة ضربة قوية للحكومة الإسرائيلية، التي تجد نفسها في مواجهة تحديات معقدة على مختلف الأصعدة. داخليًا، قد يؤدي هذا القرار إلى زيادة التوترات السياسية، خاصة في ظل التحالفات الهشة بين الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تضم رئيس الوزراء نتنياهو. فالمجتمع الإسرائيلي، الذي غالبًا ما يتسم بإجماع قوي حول القضايا الأمنية، قد يشهد انقسامًا بشأن كيفية التعامل مع هذه المذكرة الدولية. البعض قد يرى في هذا القرار هجومًا على السيادة الإسرائيلية، بينما قد يستغل المعارضون له هذه الفرصة لتعزيز حملاتهم السياسية ضد الحكومة الحالية. هذا الانقسام قد يؤثر بشكل مباشر على استقرار حكومة نتنياهو ويقوي المعارضة في الداخل.

من ناحية أخرى، قد يكون لهذا القرار تأثير عميق على السياسات العسكرية لإسرائيل في غزة ولبنان. فالمحكمة الجنائية الدولية، من خلال قرارها تعزز الضغوط الخارجية على إسرائيل لإعادة النظر في سياساتها العسكرية في غزة ، كما أن الدول الأوروبية التي تدعم المحكمة الجنائية الدولية قد تستخدم هذا القرار كوسيلة للضغط على إسرائيل من أجل التوقف عن استخدام القوة المفرطة في الصراعات المستقبلية.

أما في لبنان، فإن هذه المذكرة قد تعقد أي تحركات عسكرية إسرائيلية ضد حزب الله في المستقبل، حيث سيتعين على القيادة الإسرائيلية أن تأخذ في اعتبارها القلق الدولي المتزايد من جرائم الحرب. على الرغم من أن إسرائيل قد تستمر في تبني سياسات هجومية في مواجهة التهديدات من غزة ولبنان، إلا أن هذه الضغوط قد تؤثر على حساباتها العسكرية في المستقبل.

الجانب الأكثر إثارة للجدل في هذا السياق هو إمكانية تنفيذ أمر الاعتقال بحق نتنياهو وجالانت. إسرائيل ليست من الدول الموقعة على اتفاقية روما التي أسست المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فهي غير ملزمة بالامتثال لأوامر المحكمة. في هذا السياق، من غير المحتمل أن توافق السلطات الإسرائيلية على تسليم هذين الشخصين لمحكمة لاهاي، مما يثير تساؤلات حول فعالية القرار على أرض الواقع. وبالتالي قد يستمر نتنياهو وجالانت في ممارسة مهامهما الحكومية بشكل طبيعي دون أن يتعرضا للمسائلة القانونية الفورية، ما لم تتغير الظروف الدولية أو الداخلية بشكل جذري.

اللافت أنه ثارت العديد من الأنباء حول استعداد بعض الدول الأوروبية للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم الدعم اللوجستي في حال سفر نتنياهو وجالانت إلى الخارج. على الرغم من أن بعض الدول الأوروبية قد تكون مستعدة لملاحقة الأفراد المستهدفين من قبل المحكمة، إلا أن تنفيذ هذه المذكرات في أوروبا سيكون معقدًا، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدعم السياسي لإسرائيل من دول مثل الولايات المتحدة، التي قد تضغط على حلفائها الأوروبيين لتجنب تنفيذ هذا القرار. ولكن في حال حدوث أي تحركات دولية واسعة النطاق أو تغييرات في المواقف السياسية، فإن هذه الدول قد تلتزم بالضغط لتنفيذ الاعتقالات في حال السفر إلى أراضيها.

يبقى قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت قرارًا ذا طابع رمزي قوي، فهو يواجه صعوبات كبيرة في التنفيذ. على الصعيد الداخلي، يمكن أن يساهم القرار في زيادة الاستقطاب السياسي في إسرائيل، لكن في النهاية، فإن قدرة المحكمة الجنائية الدولية على تنفيذ هذه المذكرات على أرض الواقع تتوقف على التفاعلات السياسية الدولية، وخاصة مواقف القوى الكبرى من إسرائيل.

قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين له سوابق، رغم أنه ليس سابقة تاريخية بالمعنى الحرفي. فالمحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرات اعتقال ضد عدد من القادة السياسيين والعسكريين في مختلف النزاعات حول العالم. أبرز هذه الحالات كانت ضد قادة من دول أفريقية مثل السودان (عمر البشير)، جمهورية أفريقيا الوسطى (جان-بيير )، وكينيا (راؤول كينياتا) وغيرهم.

على الرغم من أن العديد من هؤلاء الأفراد، بمن فيهم البشير، لم يتم القبض عليهم لفترات طويلة بسبب رفض حكوماتهم التعاون مع المحكمة، إلا أن المحكمة الجنائية الدولية استطاعت تنفيذ بعض المذكرات بنجاح في حالات محدودة. إذًا، ليس غريبًا أن تصدر المحكمة مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، خاصة في سياق الاتهامات الموجهة لها بارتكاب جرائم حرب خلال عملياتها العسكرية في غزة ولبنان.

كما أن هناك حالات تم فيها القبض على مسؤولين سابقين بناءً على مذكرات اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، ولكنها كانت نادرة ومعقدة. قد تكون المحكمة قادرة على القبض على بعض القادة إذا كان هناك تعاون دولي، لكن تنفيذ هذه الأوامر يظل معقدًا ويعتمد بشكل كبير على السياسات الدولية وموقف الحكومات المعنية.

إن القبض على نتنياهو أو جالانت قد يساهم في تغيير ديناميكيات القيادة الإسرائيلية، ولكنه لن يكون سببًا كافيًا لوقف العمليات العسكرية إذا كانت هناك اعتبارات استراتيجية من قبل إسرائيل. من الممكن أن تستمر العمليات العسكرية إذا كانت تُعتبر جزءًا من الدفاع عن الأمن القومي .

على الرغم من التحديات التي قد تواجه تنفيذ هذا القرار، إلا أن له دلالة كبيرة على مستوى العدالة الدولية وتطبيق القانون , فالقرار يعزز من مصداقية المحكمة ويُظهر التزامها بتطبيق العدالة على الجميع .