«عبدالمسيح».. مسحراتى «أبوكبير»
مرتدياً عباءته السوداء ذات الحواف المذهبة، وحاضناً طبلة نحاسية معلقة فى رقبته، وممسكاً بعصا صغيرة، يسير مينا عبدالمسيح، بجسده النحيل وملامحه الدقيقة بقرية «عزبة أبوكبير» التابعة لمحافظة البحيرة، دون أن تشيعه نظرات استهجان أو توجس بعض المارة، بل إن بعضهم يرمقونه بإعجاب وارتياح «شاب منفتح وقلبه أبيض»، يمضى مينا الشاب العشرينى، وكل همه أن يستيقظ أهل الحى على إيقاع صوته الوديع والمنغوم وهو يردد: «اصحى يا نايم ووحد الدايم»، وتعلو وجهه ابتسامة واسعة يقطعها بين الحين والآخر ملوحاً لمارة قلائل فى هذا الوقت المتأخر من الليل: «كل سنة وأنتم طيبين».
مينا طالب الفرقة الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة مسكون بهاجس المسحراتى منذ طفولته، ويراه واحداً من الوجوه الجميلة للشهر الفضيل، يقول: «من ساعة ما كنت طفل كنت بلف مع مسحراتى عجوز، ودلوقتى بقالى سنتين بقوم بدور المسحراتى فى القرية كلها، وبستنى قدوم رمضان بفارغ الصبر، لطقوسه الاجتماعية الفريدة واللمة والروحانيات اللى بتجمع الناس ببعض»، ورغم أنه يعمل فى أحد المصانع بالوراق بالنهار، فإنه يستهل جولته قبل الفجر مع طبلته المحببة بعد أن يقرأ ماتيسر من الإنجيل وكوب الشاى بلبن: «عاوز أوصل رسالة تربوية واجتماعية مفادها أن المسلمين والمسيحيين إخوة وأبناء شعب واحد، ويجمعهم وطن واحد: أنا بعمل بوصية المسيح لما قال: أحبوا بعضكم بعضاً»، ثم يستطرد وقد علته سحابة غضب: «مفيش فرق خالص ومش محتاج أقول كده، وحتى بيتنا القديم اللى اشتراه جدى كان ملاصق للجامع ومع ذلك كنا بنسمع خطب الجُمع وأصوات الإمام فى الميكروفون فى الصلوات الخمس». تطورات العصر الحديث أثرت على هذه المهنة، لكنها لن تنقرض، كما يؤكد مينا، ورغم اختراع طرق جديدة لإيقاظ الناس على السحور، بينها منبهات الساعات والهواتف النقالة، فإنّ الطابع الإنسانى لهذه المهنة يبقى ضرورة، وهى جزء من الموروث الإسلامى المصرى، ويقول عنه: «طالما سألت نفسى، لماذا اختفت مهنة المسحراتى، ولماذا سارع المسلمون ليستبدلوها بالمنبهات الإلكترونية، ومن هنا كان قرارى كمساهمة فى إحياء هذا الموروث الجميل». ثم يستطرد: «كفاية إن أول مسحراتى كان مصرى».
تطلب بعض العائلات من مينا أن يقرع أبوابها لتستيقظ للسحور، ويضيف أن «بعض الناس اللى بقابلهم فى القرية من سنين كانوا بينضموا ليَّا فى جولتى اللى بتخلص قبيل الفجر بدقائق»، كما يؤكد كذلك أن المصرى معروف بسماحته وكرمه: «بعض الناس بيقدمولى حلويات وقطايف وشاى عندما أستريح على المصطبة، وهى قعدة خفيفة عشان أرتاح وآخد نفسى»، مشيراً إلى أن الناس يعرفونه فىالقرية كلها ويتمنون له كل الخير: علاقتى بالناس كويسة قوى وبيدعولى بالصحة والعافية وأحياناً بيطلبوا منى أتسحر معاهم».
«كفاية دعوة واحد مسن من البلكونة يدعيلى، دى عندى بالدنيا واللى فيها»، يؤكد مينا أن كل ما يحكى عنه يحدث بين كثير من الأسر المسيحية والمسلمة دون أن يلتفت إليه أحد، لا فى قريته التى يوجد فيها حوالى 120 مسيحياً، ولا فى المناطق الأخرى: «اللى بيحصل ده منبعه إننا كلنا فى صحن واحد وبيربط بينا عيش وملح»، الأذكار والأدعية التى يرددها الشاب المسيحى ثابتة طوال الشهر إلا أنها تزداد فى يوم ليلة القدر: «أقوم بترتيل أدعية ثابتة لكن فى ليلة القدر بنشد أسماء الله الحسنى».
أحمد سعيد، أحد أهالى القرية، يعتبر أن مرور شهر رمضان «من غير مينا بصوته الشجى وصوته الجميل أشعر إن فيه حاجة ناقصة».