كابوس على مد البصر

رحاب لؤي

رحاب لؤي

كاتب صحفي

هذه قصة "جثة" لفتاة تدعى ياسمين، كانت حياتها عادية جدا في صباح نفس اليوم الذي سوف تلتف فيه عائلتها بالكامل حولها من أجل إيجاد طريقة لدفنها، يوم واحد فقط في حياة الطفلة الصغيرة كشف الأيام السابقة واللاحقة لعائلتها بالكامل، الأم هالة والجدة حليمة والأب مسعد، وفتح بابا من التساؤلات اللانهائية، هل الصغيرة ماتت بصورة طبيعية أم قُتلت، وهل يمكن لعائلة كاملة أن تقتل طفلة .. ربما تلك هي كلمة السر في القصة بالكامل!

في روايته "بياض على مد البصر" يمنح الكاتب الشاب محمد عبد الرازق قارئه جرعة مكثفة من أجواء كابوسية مقيتة، مع وصفة خاصة تمنعه من الخروج، الكاتب السكندري وطبيب الأسنان الشاب استطاع عبر 184 صفحة أن يبقي القارئ غير مرتاح وغير قادر على الخروج أيضا، الأمر يشبه المصيدة أنت بالداخل غير مرتاح، لديك غنيمة شهية وأنت غير قادر على الخروج.

تدور أحداث الرواية الصادرة عن دار العين للنشر حول حادث وفاة فتاة، في قرية مصرية، لكن الأمر ليس بهذه السهولة فالنوفيلا الصغير تحمل الكثير، يقدمها لك راو مصاحب للشخصيات، يجعلك تتساءل طوال الوقت: "ماذا يعني الشرف حقا؟".

مع الصفحات الأولى يبدأ التوتر، والشعور بالضيق، والفضول أيضا، تجاه الأحداث وتجاه تلك القدرات الفريدة التي ساعدت كاتب شاب على التعبير عن مشاعر السيدات والفتيات بهذا القدر من الصدق والصراحة، تجد تتسائل: "كيف فعلها!" لم يدع أصواتا ذكورية تطغى، وربما لو لم تعرف من كاتب الرواية لظننت أنها سيدة أو فتاة وليس شابا وتلك الميزة الأبرز برأيي في كتابة محمد عبد الرازق الذي يخبرك عبر صفحات روايته التي تنتمي بشكل ما إلى أدب الجريمة عن الثمن الحقيقي والواقعي للزيجات التعيسة.

تحتدم الأحداث بداية من الصفحة 83 لتتوالى الأسئلة في ذهن القارئ حول معنى الأبوة؟ والأخوة، وكيف يمكن لسوء تفاهم أن يدمر حياة أسر كاملة، أب لم يكن يرغب سوى في دفن طفلته أو بالأحرى التخلص منها، وجدة لم تكن ترى في البنات سوى "بلايا" وأم خسرت حياتها وابنتها ومستقبلها وأحلامها لأجل لا شيء، وشقيق لا تستطيع أن تتعاطف معه أو تكرهه، في مرحلة رمادية مرعبة شأن كثير من الأبناء في العائلات، ذلك الطيب الشرير، المجرم الضحية، المسكين القذر.

في الرواية ذات الأجواء الكابوسية والعنوان الجذاب، وصف متقن للأجواء الخانقة، الإضاءة ودرجة الحرارة، والمساحات الضيقة، والجدران الكئيبة والأحداث المؤذية، فضلا عن تناول ما يمكن للمنشطات وتحديدا الترامادول أن يفعله في حياة أسر كاملة، جانب لم تتطرق إليه كثير من الأعمال السابقة، لكن محمد تحدث عنه بدقة شديدة، تحديدا ما يمكن لحبة ترامادول واحدة أن تفعله في أب، فيتحول من ولي أمر يحمي إلى مجرم يبحث عن أنسب طريقة للتخلص من فلذة كبده.

ربما نقطة القوة في هذه الرواية هو أن البطلة لم تنبس ببنت شفة، بطلة ميتة، صغيرة في العمر، لكنها استطاعت رغم موقفها الضعيف أن تفضح الجميع، وأن تجعل الجميع أبطال من ورق، نقطة القوة حقا أن تكتب رواية كاملة حول موقف صغير.

حين تنتهي من رواية "بياض على مد البصر" سوف تدرك معان جديدة للخذلان، هو ألا تخذل الآخرين الذين يرجون خيرك وحسب، ولكن أن تخذل نفسك، أرشح الرواية بقوة لمن يبحث عن عمل قادر على خطفه من الواقع إلى واقع آخر تماما، من الأفكار والأحداث والمواقف الخارجة من نطاق الطبيعي والممكن.