سيد مكاوى «أول كلامى سلام»

سيد مكاوى «أول كلامى سلام»
لا يستلزم العزف على الأوتار رؤيتها، إنما تذوقها بإحساس مرهف وأذن موسيقية، لا تُقرأ «النوتات» بالبصر، بل بالبصيرة، ولا تخفى النظارة السوداء عينين ضريرتين وإنما معزوفات سحرية تسخر الكون لو أرادت، تدفع الأرض للنطق بالعربية لو قالت: «الأرض بتتكلم عربى»، وتكمل البهجة ببساطة «المسحراتى» الجوّال «المنقراتى» على طبلة «البازة» فى رمضان.
بشكل نمطى، سارت حياة سيد مكاوى الذى رأت أسرته فى فقدان بصره سبباً كفيلاً بأن يسلك الطريق الدينى، حفظوه القرآن وقدّموه للأذان، فى صحون مساجد منطقة «الناصرية» بالسيدة زينب مارس الشاب الضرير الإنشاد الدينى، بذاكرة موسيقية حادة تحفظ العُرب والمقامات والوقف والابتداء بشكل أذهل جيرانه أولاً، قبل أن تذهل مصر كلها لاحقاً.
لم يستمر مسحراتى الموسيقى المصرية فى ثياب الإنشاد طويلاً، حيث طمح فى أن يُعتمد مغنياً لدى الإذاعة المصرية فى الخمسينات، وهو ما تم فعلاً، وعلى الرغم من قدرته الفذة فى مجال التلحين الموسيقى، فلم تكون أولى أغنيات «مكاوى» من تلحينه، وإنما من تلحين آخرين.
امتازت أغنيات سيد مكاوى بالرشاقة، على الرغم من رصانة الآلات الموسيقية التى اعتاد العزف عليها «القانون والعود»، إذ أصدر أعمالاً فنية ذات طابع شعبى خفيف، وكانت بدايته فى غناء الأغانى الخفيفة نقطة التقائه بشاعر الرباعيات المصرى صلاح جاهين، الذى ارتبط بها طويلاً بعد ذلك فى تقديمها عبر إذاعة «صوت العرب»، ولم تكن الرباعيات أشهر ما قدمه «مكاوى» من كلمات «جاهين»، وإنما أوبريت «الليلة الكبيرة» الذى تحولت إذاعته فى ذكرى المولد النبوى عادة سنوية للتليفزيون المصرى.
فى نهاية السبعينات، كانت شهرة الملحن والمغنى الكفيف قد ذاعت كفاية لأن يتعامل مع الكثير من مشاهير المطربين المصريين وقتئذ مثل شريفة فاضل، وفايزة أحمد، ومحمد عبدالمطلب، وليلى مراد، وشادية، ونجاة الصغيرة، وصباح، ووردة الجزائرية، وسميرة سعيد، حتى إن أسطورة الغناء المصرية الفنانة الراحلة أم كلثوم، قد استعانت بـ«نوتة» سيد مكاوى الموسيقية كى يلحن لها أغنيتها «يا مسهرنى»، التى لاقت شهرة واسعة.
«الدرس انتهى لموا الكراريس»، و«إحنا العمال اللى اتقتلوا» أغنيتا رثاء عُزفتا على عود سيد مكاوى بمقامات حزينة، تلائم الحادثين الدمويين اللذين استهدفت فيهما إسرائيل مدرسة بحر البقر الابتدائية، ومصنع أبوزعبل، وراح فيهما العشرات من الضحايا المدنيين من بينهم أطفال، ولم ينفصل «مكاوى» عن الواقع المصرى السياسى على الرغم من ميله بشكل كبير إلى الأغانى الخفيفة.
كان فؤاد حداد إحدى كلمات السر فى الشهرة الواسعة التى نالها «مكاوى» فى التلحين والغناء، ومن بين الأعمال الملحمية التى قدمها «مكاوى» مع الشاعر فؤاد حداد، حلقات «نور الخيال» التى بثتها إذاعة البرنامج العام، فى رمضان 1968، حين لعب «مكاوى» دور الراوى القصّاص لحواديت القاهرة عبر التاريخ، وكان يفتتح تلك الحلقات بأغنية «أول كلامى سلام»، وفيها قدّم أغنية «الأرض بتتكلم عربى»، كما تشارك «مكاوى»، و«حداد» فى صناعة العمل التراثى الإذاعى «المسحراتى»، الذى قدمته الإذاعة المصرية فى شهر رمضان لفترة طويلة، حتى وفاة المسحراتى «مكاوى» فى 1997.