هانى عازر.. أبوالهول ألمانيا
جاءت معرفتى به قبل أن ألتقيه فى سبتمبر من عام 2009، حينما قادتنى الظروف لاستعمال القطار من برلين إلى دريسدن بألمانيا لتغطية أحداث محاكمة قاتل مروة الشربينى. انبهرت بمحطة القطارات الألمانية ذات الطوابق المتعددة والمساحة الضخمة والتنظيم الفائق بالدقيقة والثانية. وتساءلت عن مبدع تلك التحفة، فقال مرافقى المستشار محمد عباس بالسفارة المصرية ببرلين وقتها: «إنه مصرى اسمه هانى عازر». عقدت الدهشة وقتها لسانى، ثم سارعت بطلب رقمه للقائه، فأخبرنى محمد عباس بأنه صعب جداً، لأنه شخصية مشغولة جداً وهامة جداً. عدت لمصر بعد انتهاء المحاكمة فى شهر فبراير 2009، ولكننى لم أنس هانى عازر وقررت مواصلة البحث عنه، حتى عثرت عليه وحادثته فى يوليو من ذات العام، وطلبت منه لقاءه والتصوير داخل المحطة ومعه لـ«المصرى اليوم» حيث كنت أعمل وقتها، فحدد لى موعداً فى شهر سبتمبر -أى بعد شهرين من المحادثة- فوافقت وسافرت له فى الموعد ليكون لقائى مع أحد أهم من التقيتهم فى حياتى من شخصيات، لا لشهرة أصابها أو نجاح حصده فى مهنته، ولكن لطيبة وانصهار فى مصريته رغم سنوات الغربة التى قضاها فى برد ألمانيا.
وافق لقاؤنا فى سبتمبر 2009 شهر رمضان، وكنت صائمة بينما الإفطار هناك فى التاسعة تقريباً، وجاء هو من شتوتجارت بالطائرة إلى برلين والتقينا وأخبرنى بأنه جائع وبرغبته فى دعوتى للغداء. فأخبرته بأننى صائمة، وأنه يمكنه تناول غداءه، بينما أنا أستمع له، فرفض وأصر على انتظارى نحو 4 ساعات هى المدة المتبقية وأخبرنى بأنه سيمر على فى الفندق ليأخذنى لتناول الافطار فى مطعم يقدم الكباب التركى. حاولت إثناءه ولكنه أصر بعقل صعيدى مصرى صميم.
فى الحديث اكتشفت إنساناً غادر مصر فى 1973 بالجسد تاركاً فيها الروح مصطحباً معه العادات والتقاليد وكل شىء. يتحدث بطريقة المصريين وعقليتهم رغم سنوات الغربة، يشرب الشاى الخمسينة بسكر زيادة. يعيش الحنين للعب الكرة الشراب فى شوارع حدائق القبة، يسير فى شوارع برلين فيحدثك عن وسط البلد ودور السينما فيها. يسكنه الحنين لحب ابنة الجيران التى كان يكتفى منها بنظرة فقط، حرصاً على احترامه لذاته وعدم رغبته فى الارتباط قبل أن يستعد له. يحكى عن تواضع الحال للأب الموظف الذى كان المثل والقدوة والأمل لأبنائه الستة، والأم التى عاشت البركة بتدبير أمور البيت، فمنحها الله وأسرتها الستر والنجاح. ينظر للسماء وهو يتحدث عن والديه ويقول: «كلما حققت شيئاً تمنيت لو كانا على قيد الحياة ليريا ما فعلت، فأنا جزء من فعلهما». تدمع عيناه حينما يتذكر عبدالحليم وأغنياته التى يدندن بها فى الطريق.
تدرك وأنت تسير مع هانى عازر فى برلين أنك تسير مع شخصية مهمة، منحها الألمان الترتيب 15 فى قائمة ضمت أهم خمسين شخصية فى ألمانيا، ورسمته الصحف فى تعليقاتها عن إنجازاته فى دنيا الأنفاق وتنفيذ المشروعات الكبرى على هيئة أبوالهول. أبهر الألمان حينما حل مشكلة المياه الجوفية تحت الأرض أثناء حفر أنفاق القطارات بتجميدها لمستوى ما قبل سطح الأرض ليترك الفرصة لرى النباتات والغابات فى ألمانيا. وجعلهم يفتحون أفواههم دهشة وإعجاباً حينما بنى المبنى الإدارى لمحطة برلين دون توقف حركة عمل القطارات، بشكل أفقى للجانبين، ثم إنزاله بسلاسل ضخمة بمعدل سنتيمتر واحد كل ساعتين إلى حد تسجيل ناشيونال جيوجرافيك لتلك اللحظة. وسمع تصفيق الألمان حينما غير مجرى نهر بعرض 70 متراً بالقرب من المحطة لحين انتهاء العمل ثم أعاده مرة أخرى بعد الانتهاء من التنفيذ.
ومنحته المستشارة أنجيلا ميركل أعلى درجات التكريم، حينما انتهى من تنفيذ محطة قطارات ألمانيا -حلقة الوصل مع كل مدن أوروبا- قبل افتتاح مونديال كأس العالم فى 2006. لماذا أتذكر هذا الآن؟ فقط لأننا نحتاج دوماً للعودة بين الحين والآخر لبعض نقاط الارتكاز فى حياتنا لندرك قيمة ما مضى ولا نتنازل فى تعاملاتنا أو علاقتنا عن ذات مستوى الرقى والإنجاز. تحياتى للمصرى هانى عازر الذى أدرك حجم ما يقدمه لبلاده من أدوار، وأمنياتى لأخى بكل الخير.