عن حديث المصالحة مع الإخوان
كلما خبا ضوء الجماعة وسط الأحداث المتسارعة، وتعرضت لهزائم منكرة متتالية، ومرّ الوقت على المسجونين، وظل التنظيم بعيداً عن مشهد العمل السياسى الرسمى، يخترق حديث المصالحة بين الدولة المصرية والإخوان دائماً أجواء الصمت، بفعل فاعل أحياناً من خارج الجماعة، وبفعل من داخلها أحياناً أخرى، وكأن هناك من يقصد إثارة هذا الأمر، وبكل تأكيد هو يهدف للبحث عن مخرج قبل أن تفقد الجماعة الفرصة الأخيرة لها فى الحياة.
هناك وفى عدد من المدن خارج مصر (باكو - لندن - باريس - سراييفو) حدثت عدة اجتماعات لمناقشة مستقبل الجماعة بمصر، ولم يرد التنظيم الدولى وبعض رموزه، مثل عبدالله بن منصور، المحاسبة على الفاتورة المصرية، فالتنظيم بمصر له حمولة ثقيلة، لذا فقد أرادوا بأى وضع حل تلك الإشكالية بدعمهم لجناح (صلاح عبدالحق) المرضى عنه إقليمياً من عدة دول، والذى أبدى الاستعداد للقبول بأى شروط مهما كانت درجة صعوبتها، فى نفس السياق والتوقيت كانت هناك شخصيات وسيطة تنصح الجماعة بأن تعلن تخليها عن حلم السلطة، وأن تعلن إيمانها واقتناعها أن الديمقراطية هى نهج التغيير الوحيد، وتوافق على العمل من خلال إطار وطنى جامع، ومن خلال إطار القانون، وأن تتخلى عن وجود التنظيم والجماعة لصالح حزب سياسى، يعمل ضمن إطار الثقافة السياسية الحالية، أى الخاضعة لضوابط المجتمع والنظام السياسى، كما تعلن تخليها عن استراتيجية الصدام الشامل مع الأنظمة السياسية إلى سياسة التعايش أو التكيّف الإيجابى، وتخليها عن الطور الاحتجاجى، إلى طور البناء والمشاركة السياسية، والأهم إعلان براءتها من كل التشكيلات والكيانات المسلحة، وانفصالها عن التحالف مع الجماعات والأحزاب التى تؤمن بحتمية المواجهة، كما تعلن اعتذارها عما حدث خلال السنوات الماضية وما تسببت فيه للشعب المصرى.
كانت المشكلة الكبيرة لدى (الجماعة - فرع مصر) تكمن فى موافقة عناصر الداخل (السجون)، وثانياً النجاح فى كبح جماح القواعد «الشباب المؤمنون بالعمل الثورى المبدع»، وكذا الانقسامات الحادة بين جناح محمود حسين والكماليين وباقى التنظيم، وكلهم يبدون الاستعداد لطرح نفس المبادرة إلا أنهم يريدونها منهم هم لا من صلاح عبدالحق وحلمى الجزار. فى هذا الإطار تم نقل صلاح عبدالحق إلى تركيا للسيطرة على الجماعة، وأصدر بعد وصوله فى سبتمبر 2022 ما أطلق عليه (وثيقة الأولويات)، وهى ورقات جاءت رداً على استراتيجية وضعها جناح الجماعة الآخر (المكتب العام) تتحدث عن استراتيجيات ثورية دائمة، وعدم التخلى عن الصراع على السلطة، والتمسك بالمواجهة واعتبارها حتميات شرعية وتاريخية.
واعتبرت الرؤية الجديدة للجماعة، وفق الوثيقة، أن موقع السياسة من مشروع الإخوان سيكون هو الأخير، مع التمسك بدعوة الإسلام الشاملة، لكن رغم ذلك فإن مهمة الإصلاح الشامل أنه لا يمكن أن يتجاهل الحكم، ولم تذكر الوثيقة كيفية هذا الإصلاح بشكل مباشر، إلا أنها أشارت إلى أن قوة الدولة يمكن أن تعيقه، ومن تمام الإسلام الاهتمام بشئون الأمة.
وفى حديث مصور يوم 13 أبريل 2023، تحدث صلاح عبدالحق قائلاً إن السياسة واجب دينى ووطنى لا يجوز التفريط فيه، لكن غاية المهمة السياسية ليست طلب الحكم بل إصلاح الحكم، وإن الجماعة لكى تحقق الإصلاح عليها أن تتجاوز الصراع على السلطة.
وجاء حوار حلمى الجزار فى قناة الشرق فى هذا الإطار، حيث دعا للمصالحة أيضاً، ملمحاً بأن الجماعة يمكنها أن تقوم بتحديد تموقع الإخوان بشكل جديد داخل المجتمع.
وكان من أجل نجاح هذه الجهود العمل وفق الخطة التالية:
إعادة هيكلة الإعلام الإخوانى، وتخفيض حدة الهجوم على النظام المصرى، خاصة فى الإعلام الرسمى للجماعة بمصر مثل قناة (وطن).
العمل عن طريق عناصر فى الخارج أولاً ثم الداخل ثانياً لترويج أزمات الجماعة فى تركيا والتضخيم منها، وأن الجماعة محاصرة وتطارد، وأن عناصرها ينتقلون لدول أخرى.
التضخيم من حجم الانشقاقات بين أجنحة الإخوان.
العمل مع عناصر معارضة لا تتبع التنظيم مثل (أيمن نور) للعمل على تقريب وجهات النظر، والتواصل مع بعض الشخصيات للعمل على حل مشكلة الإخوان، وهو ما توافق مع رغبته فى لعب هذا الدور.
العمل على إغراق المتابعين بأن هذه الجهود هى من تخطيط الدولة وليس الجماعة، وأن كل ما يحصل يحوز رضا النظام المصرى، وأنه من الخطورة مجابهة المصالحة المقبلة، والعناصر الداعمة لها مثل أيمن نور.
الترويج لما يسمى مراجعات داخل السجون، والتى أعلن عنها فى 2022 برسالة مسربة من سجن الفيوم وقّع عليها 300 سجين إخوانى، دعوا فيها التنظيم للتراجع خطوات للوراء، وأنهم نظموا ورش عمل ومنتديات فكرية وسياسية لبحث الأمر، وقسموا مراجعاتهم إلى محورين رئيسيين: محور المواقف السياسية للجماعة، ومحور المنطلقات الفكرية التى يتبناها التنظيم منذ تأسيسه سنة 1928، وبعد اكتمال المراجعات اتجهوا فى خطين متوازيين: الأول تدوين نتائج هذه المراجعات فى مقالات وكتب، والثانى إعلان انشقاقهم عن الجماعة.
فى مقابل الخطوات السابقة، كانت جبهة صلاح عبدالحق تعمل على قدم وساق للسيطرة على الهيئة الإدارية للجماعة، وفروع التنظيم فى الأقطار المختلفة، خاصة العناصر المصرية الموجودة بالدوحة، وتم مجابهة ذلك من جبهة محمود حسين وعناصر المكتب العام، الذين عادوا للواجهة بمؤتمر أعلنوا فيه عن رؤيتهم السياسية، وأطلقوا برامج أسبوعية مصورة من مؤسستهم (ميدان) تواجه الأطروحات الجديدة.
وعمل بعض العناصر المعارضة غير التابعة للجماعة، مثل عمرو عبدالهادى، والمخرج المعارض محمد الشرقاوى، الذى يمتلك موقع 180 تحقيقات، فى توضيح صورة أخرى لما يجرى، والأول كشف عن اجتماع حصل فى أذربيجان، حضره صلاح عبدالحق وحلمى الجزار، مع عبدالرحيم على، مدعياً أن الأخير قال لهم فى الاجتماع إنه موفد من قبَل الدولة، وحصل على توقيعهم على بيان للتوقف عن العمل السياسى، وأما الثانى فكشف، عبر بعض الوثائق، عن عناصر تتواصل من أجل عمل المصالحة، وأشخاص آخرين يعملون على التواصل مع بعض العناصر الهاربة فى تركيا للحصول على توقيعاتهم للعودة إلى مصر، رغم أن ذلك عملياً غير مقبول من الدولة المصرية، ولم يحدث حتى الآن.
اختارت الجماعة ماجد عبدالله لطرح الأمر على قناته الخاصة، ثم مناقشة ما حصل بقناة الشرق، ولما حدث رد فعل من الداخلية المصرية فى بيان رسمى استنكرت فيه أحاديث المراجعة بالسجون وكذّبتها، خرج حلمى الجزار ببيان أنكر فيه ما جرى، وقال إنه لم يقل إن الجماعة ستتخلى عن العمل السياسى.
ويرى البعض أن معنى المصالحة المقصود هو المراجعة لكل الأخطاء والاعتراف بكل وضوح بذلك، وهنا تبقى الدولة هى المحتضنة فيما بعد للمخطئين، وآخرون يرون أن المصالحة هى حل التنظيم جملة وتفصيلاً، لكن المصالحة كما بدت فى بيان حلمى الجزار هى القبول بالجماعة والإفراج عن مسجونيها!، وهو ما يثبت أن الإخوان تعانى أزمة مزدوجة غير مسبوقة ذاتية وموضوعية، على الصعيدين الداخلى المتعلق بإدارة التكيّف الأيديولوجى والتنظيمى، والخارجى المتعلق بتدبير العلاقة مع الدولة، التى انتصرت، أما الجماعة فهى من عانت الضعف والتراجع والانقسام، وأصبحت رهينة أزمتها الذاتية الأيديولوجية والتنظيمية.