دور الكنيسة في تطور القانون الجنائي
- أسعار النفط
- أسواق النفط
- استئناف تشغيل
- الخام الأمريكي
- العقود الآجلة
- الواردات الصينية
- بحر الشمال
- خام برنت
- خط أنابيب
- أدنى مستوى
- أسعار النفط
- أسواق النفط
- استئناف تشغيل
- الخام الأمريكي
- العقود الآجلة
- الواردات الصينية
- بحر الشمال
- خام برنت
- خط أنابيب
- أدنى مستوى
فى العشرين من شهر أبريل عام 1998م، سافرت إلى العاصمة الفرنسية باريس لإعداد رسالة الدكتوراه فى القانون الجنائى، حيث تمت المناقشة والحصول على درجة الدكتوراه فى التاسع من شهر يناير 2002م، وبعدها بشهر تقريباً كانت العودة إلى أرض المحروسة لتسلم العمل مدرساً بقسم القانون الجنائى بكلية الحقوق جامعة القاهرة العريقة.
وخلال فترة إقامتى بالعاصمة الفرنسية، كنت حريصاً على أخذ قسط من الراحة من وقت لآخر، والسفر فى رحلة داخلية لزيارة إحدى المدن الفرنسية أو زيارة الريف الفرنسى، أو السفر فى رحلة خارجية إلى إحدى الدول الأوروبية المجاورة.
ومن الرحلات الداخلية التى ما زلت أتذكرها وأتمنى تكرارها تلك الزيارة التى قمت بها إلى مدينة شارتر (Chartres)، حيث تعتبر كاتدرائية نوتردام دو شارتر (La cathédrale Notre-Dame de Chartres) أهم المعالم الأثرية التى توجد فى المدينة. وأثناء زيارتى لمبنى الكاتدرائية، تقابلت مع أحد رجال الدين المسيحى القائمين على خدمة الكاتدرائية، حيث ذكر لى أمراً مهماً عن واقعة صلب السيد المسيح، قائلاً إن روحه عندما خرجت من جسده، تجسدت فى أرواح كل البشر، ولذلك، وعلى حد قوله، فإن كل إزهاق لروح إنسان، ولو كان مداناً فى جريمة، هى إزهاق لروح السيد المسيح فى الوقت ذاته.
وبغض النظر عن مدى صحة هذا القول، فإن المسلَّم به والثابت فى العقيدة المسيحية أن المسيحيين يؤمنون بأن السيد المسيح صُلب ومات من أجل دفع ثمن خطايا جميع البشر، كى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.
ومن الثابت فى العقيدة المسيحية أيضاً أن الله يكره الخطيئة ويحب الخاطئ، وأن الله يريد أن يخلص جميع الناس، ويريد بالتالى إرجاعهم إلى سبيل الحق والرشاد. الله يحب الخاطئ، لكنه يكره الخطية والشر: الله يكره أفعال الخطاة، لكنه يحبهم، فالله ليست عنده مشاعر متقلبة كالبشر، يحبك عندما تكون صالحاً، وفجأة يتوقف عن محبتك، لأنك أخطأت! جميع هذا من صفات البشر الساقطين، وليست من صفات الله الكامل الصفات.
والواقع أن هذه المعتقدات كان لها تأثير ودور بالغ فى تطور القانون الجنائى. بيان ذلك أن النظرة إلى المجرم قد تغيرت، واتخذت طابعاً أكثر إنسانية، حيث اتخذ التكفير عن الإثم صورة عميقة، واستند إلى أساس من العدالة، فلم يعد مجرد تضحية بالجانى إرضاءً لآلهة تشبع القسوة رغباتها كما كان الوضع فى المرحلة الزمنية السابقة على ظهور المسيحية وظهور الأديان السماوية بوجه عام، وإنما غدا جزاءً عادلاً يريد به الإله العادل محو الخطيئة (pêche)، وفكرة الخطيئة هى أساس الجريمة الدينية.
وقد كانت لهذه النظرة إلى الجريمة أهمية كبيرة: فالاتجاه إلى محو الخطيئة أثار الاهتمام بشخصية الجانى ووجه العناية إلى إرادته، وكان بذلك أساساً لنشوء نظرية الركن المعنوى للجريمة.
ولذلك، يبدو سائغاً القول إن الاتجاه العام للمسيحية هو الإقلال من قسوة العقوبات، سواء باستبعاد العقوبات المفرطة فى الشدة أو تجنب وسائل التنفيذ التى تنطوى على القسوة، ومن مظاهر ذلك أن العقوبة لم تكن محل ترحيب رجال الكنيسة. وقد قيل فى ذلك إن «الكنيسة تفزعها الدماء المراقة».
ولهذا الاتجاه سببان: أولهما، أن الرحمة والتسامح من صميم الأخلاق الدينية المسيحية. وثانيهما، أن فكرة الجزاء العادل تتطلب توازناً بين الخطيئة والعقاب، وهذا التوازن يؤدى إلى استبعاد كل قسوة تجاوز إثم الخطيئة. وما دمنا نتحدث عن دور الكنيسة فى تطور القانون الجنائى، فلا ينبغى أن يفوتنا ما قام به بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس الأول من غسل وتقبيل أقدام سجناء، وذلك بمناسبة إحياء بعض الأعياد أو الأيام الدينية المسيحية، فقبل تولى البابا فرنسيس البابوية كانت تقام هذه المراسم فى الفاتيكان أو فى كاتدرائية القديس يوحنا اللاترانى، ولكن، ومع تولى البابا فرنسيس كرسى البابوية، وجرياً على تقليد بدأه عندما كان كبير أساقفة بوينس أيرس، قام البابا الحالى بإحياء مراسم العديد من الأيام الدينية فى الأحياء الفقيرة فى روما مع أفراد من عامة الناس، بل إنه لجأ إلى إحياء بعض الأيام الدينية المسيحية داخل أحد السجون، كما أنه أول بابا يضم نساء غير كاثوليك فى عملية غسل الأقدام، كاسراً بذلك تقاليد بعض الطقوس الدينية.
لكل ما سبق، نود التأكيد على أن النظرة الحديثة للنظام العقابى تعلى من شأن تأهيل النزلاء فى المؤسسات العقابية والإصلاحية، انطلاقاً من النظرة إلى النزيل أو السجين باعتباره إنساناً، وأن إقدامه على سلوك سبيل الإجرام لا ينزع عنه صفة الإنسانية. إن الكرامة الإنسانية كل لا يتجزأ و«العدالة الجنائية لا يمكن أن تقف على أعتاب السجون»، على حد قول المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.