غزو كورسك كشف «العورة العسكرية» الروسية

لم يكن غزو أوكرانيا لكورسك الروسية صدفة، ولا هو قرار أوكرانى، ولكنه كان تخطيطاً أمريكياً وبأسلحة أمريكية - أوروبية، وتم تنفيذه بالاشتراك مع قوات من الناتو.

فهذا الغزو والاحتلال الأوكرانى لأراضٍ روسية يُعتبر تغييراً تكتيكياً فى استراتيجية الحرب بين البلدين التى اندلعت فى فبراير 2022، وخلال الثلاثين شهراً احتلت روسيا 20% من أوكرانيا وتوقفت عن احتلال المزيد من الأراضى، لأنها اعتبرت أن المدن التى ضمتها هى روسية فى الأصل!.. وكان التوجه الاستراتيجى لروسيا منذ بداية الحرب هو ضم المدن التابعة لها فقط، والضغط على «كييف» لتصرف النظر عن الانضمام للناتو لضمان الأمن القومى الروسى، ولم يكن التوجه هو اجتياح أوكرانيا واحتلالها بالكامل، ولولا الدعم الأمريكى الأوروبى لكييف لنفذت روسيا خطتها.

وطوال فترة الحرب لم تكن أمريكا وأوروبا تمدان أوكرانيا بأى أسلحة هجومية، واقتصرت على الأسلحة الدفاعية، بل إن أمريكا طالما حذرت أوكرانيا من أن تطال أسلحتها الأراضى الروسية، لأن هدف أمريكا الاستراتيجى كان جر روسيا لهذه الحرب لاستنزافها اقتصادياً، وإرهاقها مالياً لتدميرها من الداخل مستخدمة إطالة أمد الحرب والعقوبات الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.. ولكن الحرب لم تحقق لأمريكا الغرض منها، فغيرت الخطة، وموَّلت أوكرانيا بالأسلحة الهجومية وأعدت لها خطة الهجوم ومكان الغزو، حيث اختارت «كورسك» تلك المدينة الروسية التى تمثل فخر واعتزاز ورمز البطولة العسكرية للشعب الروسى، حيث شهدت أكبر معركة دبابات فى التاريخ العسكرى، والتى دارت بين ألمانيا والاتحاد السوفيتى عام 1943 إبان الحرب العالمية الثانية، وشاركت فيها 6 آلاف دبابة وألفا طائرة وأكثر من مليونى مقاتل من الطرفين، وسحقت فيها القوات السوفيتية قوات هتلر، وكانت نقطة انتصار مبهرة للاتحاد السوفيتى فى الجبهة الشرقية، فضلاً عن أن كورسك تُعد مركز الصناعة فى روسيا.

وفى أيام معدودات حققت القوات الأوكرانية انتصاراً ساحقاً فى كورسك لم تتوقعه روسيا ولا العالم، حيث استولت على ما يقرب من ألفى كيلومتر مربع وأسرت عشرات الجنود الروس، والمثير للدهشة أن أوكرانيا لم تستطع بل لم تحاول تحقيق هذا النصر فى المدن التى استولت عليها روسيا فى الأراضى الأوكرانية، ولم تستطع تحرير ثلث هذه المساحة فى المدن الأوكرانية المحتلة!

ولعب عامل المباغتة والمفاجأة الدور الرئيسى فى تحقيق هذا النصر الساحق لأوكرانيا والهزيمة المنكرة لروسيا، وحتى إذا استطاعت الأخيرة طرد القوات الأوكرانية وهزيمتها فيما بعد، فسيظل ما حدث نقطة سوداء فى التاريخ العسكرى الروسى الذى يملك ترسانة عسكرية تُعد الثانية على مستوى العالم، كما أنها قد كشفت ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً (عورة عسكرية) لروسيا، ستجعلها تعيد حساباتها فى منظومة تأمين الحدود وردع سلاح الجو لأى دولة معادية، فكيف تمكنت أوكرانيا من اختراق المجال الجوى بطائراتها الحربية لروسيا التى تملك مصانع تنتج أحدث منظومة دفاع جوى فى العالم (إس-400)، التى تنافس بها صواريخ باتريوت الأمريكية. بصراحة كنت أتوقع أن تقوم روسيا بهجوم مضاد يسحق أوكرانيا ويطردها من كورسك، وأن هذا الغزو الأوكرانى البرى سيكلف «كييف» خسائر فادحة فى المعدات والأسلحة والأراضى والأفراد، وأن فلاديمير بوتين سيعيد أمجاد الاتحاد السوفيتى عندما أجبر القوات الألمانية على الاستسلام مرة فى معركة ستيلنجراد، وهزمها مرة أخرى فى كورسك خلال الحرب العالمية الثانية.. لكن أن تظل قوات «كييف» كل هذا الوقت، بل وتحرز تقدماً على الأرض، فهذا يجعلنا أمام علامات استفهام كبيرة حول القدرة العسكرية الروسية فى مواجهة السلاح الأمريكى والغربى، ليس من حيث تطور ونوع الأسلحة فقط، بل فى وضع الاستراتيجيات العسكرية، وفهم أساليب وقدرات الأعداء فى وضع الخطط والقدرة على تحمل المخاطر وردود الأفعال. السيناريو الأمريكى للحرب الروسية الأوكرانية يجرى كما خططت له من البداية، ويتم تغييره وتطويره طبقاً لما يتحقق على الأرض، ولن يتوقف إطلاق النار ولن تهدأ المنطقة إلا بعد تخريب الاقتصاد الروسى ووأد طموحات الرئيس بوتين باستعادة أمجاد روسيا القيصرية وإعادة اتحاد الدول السوفيتية، واختبار السلاح الأمريكى فى مواجهة السلاح الروسى اختباراً حقيقياً على أرض المعركة.

فهل يصمد الدب الروسى ويحقق أهدافه أم ستنتصر أمريكا كما سبق وانتصرت وفككت الاتحاد السوفيتى، لكن وقتها فعلت ذلك دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تستهلك دولاراً واحداً من خزينتها؟.. الأيام القادمة هى الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.