نهال كمال: أنا الآن عبدالرحمن الأبنودى
فى منزله الريفى فى الإسماعيلية، فى الحديقة التى حرص على أن يرعاها بنفسه، جلست «نهال كمال» تدير عينيها فى المكان وكأنها تبحث عنه. إلى جوارها تستقر عصاه ونظارته وصورته الشخصية على مقعده المفضل فى القاعة التى أطلق عليها «الكتبخانة». لا تصدق «نهال» أن «عبدالرحمن» رحل: «ما زلت أعيش معه، أحدّثه صباحاً، أسأله: هل أنت راضٍ عنى؟. أفتقد الأب والابن والصديق، وأصر على استكمال مسيرته، أواصل الليل بالنهار من أجل تحقيق أحلامه.. متحف للسيرة الهلالية فى قنا، منتجع ثقافى فى الإسماعيلية، وكتاب يجمع أغانيه ويعيد قراءة أشعاره بمنظور آخر».
■ كيف تمر الأيام على نهال كمال دون عبدالرحمن الأبنودى؟
- أعيش معه 24 ساعة فى اليوم، لا أشعر بأنه رحل، أحرص على الجلوس فى المكان نفسه، الذى كان يفضل الجلوس فيه إلى جوار عصاه ونظارته، كلماته حولى، شعره يتردد فى أذنى بصوته، أزوره فى قبره كل يوم جمعة مع ابنتيه «آية ونور» فى طقس أسبوعى، نتحدث معه، نقول له كل ما نشعر به حولنا. الأبنودى كان ذا حضور قوى لم ينقطع برحيله، لا يزال سندى، أشعر بأنه ينظر إلى، ويقول: «لا تحزنى، أنا لا أزال معك». كان يتحامل على نفسه فى أصعب لحظات مرضه ليسعد كل من حوله، فى عيد ميلاده الأخير الذى احتفل به وسط محبيه، وظن الحاضرون أنه شفى تماماً، لم يعلموا أنه يتحامل على نفسه لإسعادهم، وفور خروجهم كان جسده يتهاوى، وكأنه يستمد طاقته من محبة الآخرين وسعادتهم، وهو ما حير الأطباء الذين تعجبوا من إصراره على الرد على الهاتف، واكتشفوا أن كلمات المحبين تحسن حالته الصحية.[FirstQuote]
■ رفضت مغادرة الإسماعيلية منذ وفاته.. كيف تعيشين فى المنزل بعد رحيله؟
- على ذكرياتنا معاً، وبرسائله التى يبعثها لى بين الحين والآخر، فمن الأشياء الغريبة التى طمأنتنى زيارته للعديد من الأشخاص فى المنام. أوصاهم بنا، وبعث إلىّ برسائل، وطمأنهم بأنه فى حال أفضل، وفوجئت بشيخ يطرق بابى فى أحد الأيام ويخبرنى بأنه زاره وسأله: «لماذا لم تزرنى يا شيخ؟»، فاستيقظ وسأل أبناءه عن عنوانى، وبالفعل صحبته إلى القبر، فقرأ القرآن ثم رحل.
■ ما الذى يضايقك بعد رحيله؟
- إصرار البعض على تحقيق مكاسب إعلامية بالمتاجرة فى موته وإقامة العزاء فى القاهرة خلافاً لوصيته، وهو ما دفعنى إلى الخروج والاتصال بوسائل الإعلام للمطالبة باحترام وصيته، بينما نفذ أهل الصعيد كل ما أوصى به، فلم أسمع من أحد كلمة جارحة أو محاولة للتدخل فى شئوننا، الجميع كانوا على قدر المسئولية وتفهموا الدور الذى أقوم به لاستكمال رسالة الأبنودى. غير أن أكثر ما أحزننى هو شجرة الرمان التى غرسها الأبنودى، وكان ينتظر أن تطرح، فقد تحول الأمر إلى مادة للسخرية بيننا، ولم يطرح شجر الرمان إلا هذا العام، ووجدت نفسى أقف أمامه لأقول: «ما كنتش عارف تطرح بدرى شوية وتفرّحه قبل ما يمشى».
■ كنا دائما نسمع قصة زواجكما من جانب الأبنودى ولم نسمع روايتك، ما الذى حدث حين عرض عليك الزواج؟
- الحقيقة صُدمت. هو بالنسبة لى كإعلامية كان رمزاً فى عالم الشعر، وكنت أتعامل معه كأستاذ أستنير برأيه وأستشيره، كنت على وشك الارتباط بشخص آخر، حتى جاءت والدته «فاطمة قنديل» وقلبت الموازين وطرحت فكرة الارتباط التى كانت مفاجأة لى استغرقت أسبوعاً كاملاً لأستوعبها، خضنا صراعاً مع أسرتى لفارق السن بينى وبينه، والخبرات والعادات والتقاليد، أنا من أقصى الشمال وهو من أقصى الجنوب، وكانت هناك تناقضات كثيرة جداً. رفض أهلى واتهمونى بالجنون، وحاولوا إقناعى بالعدول عن فكرة الزواج، خاصة أن والدى لم يكن يعرف «الأبنودى»، لأنه كان مقيماً خارج مصر، وتعجبت حين سألنى كأى أب عن الشهادة التى حصل عليها الأبنودى، وحمدت الله أنه كان حاصلاً على ليسانس آداب، لأننى فى تلك المرحلة تكوّن لدىّ يقين بأننى إن لم أتزوج الأبنودى فلن أتزوج غيره، وأمام إصرارى جاء الأبنودى وتقدم لوالدى كأى عريس، وظل والدى فترة حتى اقتنع به، وكان يتعجب جداً حين يخرج معنا ويجد أنه شخص معروف جداً، أقمنا احتفالية بسيطة بالزفاف بفستان أبيض بسيط، فلم يكن من المنطقى أن يجلس الأبنودى فى «الكوشة».
■ متى اقتنعت الأسرة بأن اختيارك كان صحيحاً؟
- بعد أن أنجبت آية ونور، علم والدى أنه شخص يُعتمد عليه، فطوال حياتنا معاً لم ألجأ إلى بيت أهلى يوماً أو أشتكى من معاملته، وكما كان للأبنودى فى قلوب الأمهات محبة خاصة، كانت أمى تحبه جداً وهو كذلك، حتى إنه بكاها بطريقة تعجب لها كثيرون عقب وفاتها.
■ رغم أن الأبنودى صعيدى، فإنه لم يتقيد بعادات وتقاليد الصعيد فيما يتعلق بالحديث عن الزوجة، وكان فخوراً بك وبعملك.. كيف دعّمك الخال فى مسيرتك المهنية؟
- تعرضت لمشكلات مهنية كثيرة لارتباطى به نظراً لاتجاهه المعارض للنظام، وأنا أعمل فى أحد أجهزة الدولة. كانت برامجى فى مواعيد لا يراها أحد، كان يتم السطو على أفكارى وإعطاؤها لغيرى، وكان يقول لى: «إخلصى فى عملك وسيعوضك الله»، وكنت أتعجب من إصراره على إقحام اسمى فى كل لقاءاته المسجلة، وكان مبرره أنه يحاول تعويضى عما لقيته من ظلم لارتباطى به. وحتى نجاحى الكبير كان معه فى برنامج «أيامى الحلوة» الذى حقق نجاحاً غير مسبوق، وغير الصورة النمطية التى نُقلت عنى. كان يكن احتراماً كبيراً للمرأة، وكان يقول إنه يدين بما وصل إليه إلى تلك السيدة الأميّة التى ربته.
■ متى بكى الأبنودى؟. ومتى شعر بالقهر؟
- كانت دمعته قريبة. لم يكن ممن يكبتون مشاعرهم. رأيت دموعه فى حزنه على أمه وأخته وعلى والدتى، أما القهر فلم يشعر به. كان قوياً، ويعلم عواقب اختياره. وحتى المحن التى مر بها من اعتقال لم تقهره، وتعامل معها فيما بعد بسخرية، وكان يرى أنه دفع ثمن قناعاته ومبادئه.
■ كيف كان يكتب الشعر؟
- كان يدخل فى عزلة ذهنية لدرجة أنه لم يكن يرانا أمامه. كان يقول دائماً إن الشعر هو الذى يكتبه، وليس العكس، وأقل شىء يشتت انتباهه ويجعله يتوقف عن الكتابة ويقول إن الفيض انقطع. وكانت لديه شفافية، وقد لا يعرف الكثيرون أن قصيدته «أحزان عادية» كتبها منذ 30 سنة، وهى تصف ما حدث فى الميدان والثورة وما تلاها من أحداث، مع أن البعض ينشرها حالياً مصحوبة بعبارة «آخر قصائد الأبنودى». وكان يقول إن شعره لم يُقرأ بعد، وسيتم اكتشافه مع الوقت، لذا قررت أن أعيش ما تبقى لى من عمر لأجمع أعماله وأخلّد اسمه، وهذا مشروعى المقبل بإذن الله.. فأنا الآن عبدالرحمن الأبنودى.
■ كان «الأبنودى» يحلم بتأليف أوبريت عالمى لقناة السويس، ما مصير هذا الحلم؟
- بدأ جلسات عمل مطولة مع محمد منير حتى جاءته أنباء أن دار الأوبرا تعتزم تقديم عمل فى الافتتاح فتوقف، ثم اشتد عليه المرض ووافته المنية، وطلب منى الفريق مهاب مميش البحث عن أى أبيات يكون قد كتبها، للاستعانة بها فى حفل الافتتاح، وبالفعل وجدت بعض «المربعات»، وهناك مقترح بعرضها فى الاحتفالية.
■ المعروف أنه كتب «المربعات» فى ظل حكم الإخوان وسطوتهم، وكانت نقداً لاذعاً لهم، هل حدث أن طلبت منه التوقف خوفاً عليه؟
- طوال تاريخنا معاً لم أطلب منه الامتناع عن كتابة شىء مقتنع به، وإلا لن يكون «الأبنودى» الذى حاربت الدنيا لأرتبط به. لم أخش أن يترصدنا أحد، فقد تربيت فى بيت كان والدى فيه ضابط احتياط فى حرب الاستنزاف، وعشت فى السويس وأنا طفلة، ورأيت الجرحى والموتى والقنابل، وكان لدينا أنا والأبنودى قناعة بأن العمر واحد والرب واحد، حتى إننا عشنا بلا حراس، و«آية ونور» فى القاهرة نفس الوضع. كان لدى الأبنودى رادار يعرف به الأشخاص ويستشعر الخطر كما يستشعر النفوس الصادقة. شعر بأن «السيسى» سينقذ مصر وقال له ذلك، وأوصاه بالفقراء والشباب وهما الجناحان اللذان حلّق بهما عبدالناصر. هذا لا يعنى أنه كان يوافق على كل شىء، أو يقبل بالتطبيل. كان ينتقد ولا يخاف، وهو الوحيد الذى حذر من الإخوان ولقّبهم بـ«الذئاب». وفى الوقت الذى كان الجميع يحتفلون فيه بالثورة.. رأى ما لم يره غيره، وكان تحذيره فى محله.
■ ما الحلم الذى حزنت، لأنه لم يستطع تحقيقه؟
- متحف السيرة الهلالية. كان يتمنى افتتاحه ولم يمهله القدر، وحزنى الشديد أنه لم يستطع اللحاق به مع أن العمل فى المتحف انتهى قبل الثورة وكان متوقفاً على الافتتاح.[SecondQuote]
■ ما المقتنيات التى نُقلت للمتحف من متعلقات الأبنودى؟
- قلمه وعصاه وجلبابه، وبعض الملابس، أشعار بخط يده المميز، والكثير من الصور لمراحل مختلفة من عمره، وصورة ضوئية لآخر قصائده أو بمعنى أصح وصيته الأخيرة التى أبى إلا أن تكون قصيدة، فبالرغم من أنه كان متفائلاً، إلا أن الموت بالنسبة له كان حدثاً عادياً.
■ كيف تعاملت مع فكرة بناء قبره بيديه؟
- كانت لديه قدرة غريبة على أن يحملك فى بحور أفكاره وتسترسلى معه فى الكلام، ثم تكتشفى أنه يتحدث عن موته.. هذا ما حدث معى. كان يتكلم عن القبر وكأنه بصدد بناء قصر بشكل هندسى وفتحات تهوية، وكلما سمع عن تخصيص مقابر سارع لاستطلاع الأمر. كان يفكر فى المستقبل حتى فى الموت.
■ وما الجملة التى قالها مازحاً وشعرت بها بعد موته؟
- فجأة، وبدون مقدمات، نظر لى فى الشهور الأخيرة، وقال: «هل ستتركيننى أدفن لوحدى»، فكان ردى: «وآية ونور.. هل سنتركهما فى الدنيا بمفردهما؟»، فقال: «خلاص.. إنتى خليكى مع البنات»، وضحكنا، وكلفتنى فى الكلام، وحين أفكر فى هذا الحوار الآن، اكتشف أننا كنا نتحدث عن موته.
■ كيف تعاملت «آية ونور» مع ما كان يقوله؟
- كان حديثه عن الموت يحزنهما جداً ويسبب لهما اكتئاباً، خاصة أنه كان يحاول تهيئتهما لفكرة وفاته منذ عام 1998 عقب أول أزمة صحية له. كان دائماً يقول لهما: «إنتم بنات نهال»، ومع اقتراب النهاية زاد حديثه عن الموت وزاد حزن آية ونور، فطالبته بالكف عن الحديث عن الموت، كانت آية ونور سبب تمسكه بالحياة، وحتى قبل لحظات من رحيله كان يتحدث عما يحبانه، وما سيعده لهما فى عطلتهما المقبلة من طعام، وبعد وفاته حرصت على تنفيذ وصاياه، لم ولن أغير شيئاً مما اعتدنا عليه فى وجوده كما يحب.
■ هل أسر لك بأنه كان يتمنى رؤيتهما فى فستان الزفاف؟
- كانت أكبر أمنية له، ولأنه إنسان طيب طمأنه الله قبل رحيله عليهما، فهناك مشاريع زواج وافق عليها قبل رحيله وأوصانى باستكمالها.
■ كيف تلقيت خبر وفاته؟
- كأنه مشهد سينمائى. تدهورت حالته، جاءت آية ونور وجلستا معه فى العناية المركزة لحظات، وفى الثانية التى وضعتا فيها أقدامهما خارج الغرفة، ووصل مساعده محمود من الإسماعيلية، توقفت كل الأجهزة التى تقيس علامات الحياة. أسرع الأطباء إلى إعطائه صدمات كهربية جديدة، لكن أمر الله قد نفذ، وسبحان الله: لا أعرف كيف تحملت، أنزل الله علىّ سكينة وصبراً وقوة. أبلغت أقاربنا، واتصلت من هاتفه بمحبيه من الإعلاميين. نحيت حزنى جانباً وقلت: نهال ابنة الأبنودى المدللة رحلت، ويجب أن أكون على قدر المسئولية. عقب انتهاء المراسم حدثته فى خيالى. سألته عما إذا كان سعيداً بما فعلته، وكان الرئيس السيسى أول من هاتفنى وأخبرنى بأن القوات المسلحة ستقيم سرادقاً للأبنودى فى الإسماعيلية كما أوصى، ورفع عنى حملاً كبيراً.