هل تنزلق أمريكا لفوضى؟
ليس هناك ما يمنع من انزلاق الولايات المتحدة الأمريكية إلى فوضى خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، عطفاً على ما جرى فى سابقتها، حين رفض المهزوم النتائج، واقتحم أنصاره مبنى الكابيتول، وأرادوا الاستيلاء عليه، ليكسروا تقليداً عرفته ومارسته البلاد على مدار تاريخها، حيث يتوجه المهزوم فور إعلان النتيجة بتهنئة الفائز، ويقبل أنصاره النتيجة، ويكون مَن تم انتخابه هو رئيس الأمريكيين جميعاً، من الجمهوريين والديمقراطييين وغير المنتمين سياسياً، ومن البيض والسود، ومن الأوروبيين الأقحاح والمهاجرين من كل بلاد الدنيا إلى متحف الأجناس البشرية الذى يسمى الولايات المتحدة.
إن التجربة التى مرت بها أمريكا فى أواخر عام 2020 كانت شديدة الوطأة، مختلفة ومريرة، وتحمل الكثير من النُذر والأخطار.
لهذا لم يكن لها أن تمر على الأستاذ حسين جرادى، الإعلامى البارز والصحفى اللبنانى بجريدة النهار الحامل للجنسية الأمريكية، وكان من أشهر مذيعى قناة «الحرة» لسنوات، مروراً بلا أثر ولا علامة، فسجلها فى كتاب مهم أعطاه عنواناً لافتاً هو «تذكّروا هذا اليوم إلى الأبد.. ترامب من الرئاسة إلى التمرد»، الذى صدر العام الماضى عن «دار النهار للنشر».
يوظف «جرادى» قدراته كمحاور إعلامى محترف، يحفر دوماً وراء الحقيقة، أو على الأقل خلف الخبر الجديد، ليوثق لنا فى أربعمائة صفحة الأحداث التى أعقبت انتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة، وفى ذروتها محاولة أنصار دونالد ترامب، منع الكونجرس من التصديق على فوز جو بايدن، لنُحَط معه خبراً وفهماً أن ما جرى فى هذه الأيام العصيبة فى تاريخ أمريكا، لم يكن وليد اللحظة، أو هو ابن زمن الانتخابات وحده، إنما له جذور ممتدة فى الحياة السياسية والاجتماعية الأمريكية، كما له آثار لم تنتهِ بعد.
يقف «جرادى» على الجذور والآثار، وعلى الأسباب البعيدة والنتائج التى اقتربت، عبر إجراء مقابلات معمقة مع باحثين وخبراء أمريكيين بارزين حول تداعيات هذا الحدث الكبير على الديمقراطية الأمريكية، ومظاهر ما تسمى «الترامبية» بوصفها حالة غريبة ومغايرة، وبل وخطيرة، وما إذا كانت مرتبطة بترامب أم هى مسار اجتماعى وسياسى، وربما ثقافى، تبلور وصار له قوام، وهو إن كان ترامب قد أعطاه قوة دفع، لكنه قد لا يكون مرتبطاً بوجوده على قيد الحياة السياسية من عدمه.
ولأن هذه الموضوع لا يزال جديداً، والمعلومات عنه تتخلق وتتراكم دون توقف، لجأ «جرادى»، إلى جانب المقابلات، إلى قراءاته السابقة عن النظام السياسى الأمريكى، إلى جانب وثائق وتقارير أمنية وخطب وتصريحات سياسية، ليشرح لنا عمق الانقسام السياسى عموماً، والحزبى خصوصاً، فى أمريكا، الذى أدى إلى تعطيل تنصيب بايدن، وتطلَّب الأمر عزل ترامب فى مجلس النواب، وتشكيل لجنة تحقيق فى الأحداث، التى حضر الكاتب إحدى جلساتها فى الكونجرس.
ولم يكتفِ «جرادى» بالمصادر المكتبية، ولم يقتصر فى مصادره الميدانية على المقابلات، إنما نقل لنا ما شاهده خلال سيره وسط مظاهرات الجمهوريين والديمقراطيين فى العاصمة واشنطن، واستماعه إلى إجابات بعضهم على أسئلته، وعدَّد لنا أبرز الجماعات التى اقتحمت الكابيتول، وشرح أفكارها، وأشار إلى قادتها، ثم تتبَّع مصيرهم، حين قُدموا للمحاكمة، لينتهى به الأمر فى السجون.
لا يقف «جرادى» عند هذا الحد، الذى تبرز فيه قدراته كإعلامى، إنما يعمل ككاتب أو باحث فى الشئون الأمريكية، فيرى تأثير هذه الأحداث على حالة الديمقراطية فى الولايات المتحدة، وهل تقف على حافة الخطر؟ أم انزلقت إليه بالفعل؟ وما هى صورة النموذج الديقمراطى الأمريكى فى عيون العالم الآن؟ والأهم هو الإجابة عن السؤال: هل أمريكا يمكن أن تنزلق إلى حرب أهلية مستقبلاً، وتحديداً مع الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
إن الكتاب يتكئ على اهتزاز مبدأ التداول السلمى للسلطة، والرضا بالشرعية التى تصنعها إرادة الجماهير، وتسوية الخلافات والاختلافات والمنافسات عبر الاحتكام إلى صناديق انتخابات حرة ونزيهة، وتقبل كل العيوب التى قد تشوب هذه الحرية والنزاهة من خلال التلاعب الذى يقوم به الإعلام، أو نظام المجمع الانتخابى الذى يوزع الأصوات حسب كل ولاية، ما قد يؤدى إلى فوز مرشح لم يحصل بالفعل على الأغلبية العددية فى سائر أرجاء الولايات المتحدة.
وفى رصده للانقسام السياسى داخل أمريكا يلفت الكاتب انتباهنا إلى احتمال وقوع اضطرابات سياسية فى الانتخابات الرئاسية التى باتت على الأبواب، خاصة أن أنصار ترامب، الذين يُقدَّرون بعشرات الملايين، لم يعترفوا برئاسة بايدن على مدار أربع سنوات، وبالطبع رفضوا نائبته كاميلا هاريس المرشحة الآن، ما يعنى أنها إن فازت فلن يعترفوا بها أيضاً.
لا أظن أن كتاباً بالعربية أتى شاملاً فى معالجة تأثير «الترامبية» على الولايات المتحدة كما هو هذا الكتاب، الذى صارت قراءته الآن مهمة جداً، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، فكثير من مقدمات هذه الانتخابات، وما يتخللها من وقائع وإجراءات، وكذلك ما يتبعها من أحداث، قد تكون جسيمة جداً، يحمل هذا الكتاب إطاراً تفسيرياً لها، من المفيد أن يعود إليه المختصون فى الشأن الأمريكى من الخبراء والباحثين العرب والصحفيين والإعلاميين، وحتى القراء العاديون الذين يعرفون أن أثر الانتحابات الرئاسية الأمريكية، خصوصاً القادمة، سيمتد إلى العالم بأسره.