إهانة الشخصيات التاريخية

لا يخفى على أحد الهجوم المتكرر من الأديب يوسف زيدان على الشخصيات التاريخية الوطنية، وبحيث يطل علينا من آن لآخر، مثيرا زوبعة جديدة، حتى غدا ذلك عادة أو سلوكا منتظماً مطردا يحرص عليه ويأبى أن يتخلى عنه.

ففي أحد البرامج الحوارية التليفزيونية، اتهم الناصر صلاح الدين الأيوبي بأنه من أحقر شخصيات التاريخ، وأنه قد أحرق مكتبة القصر الكبير، وأنه قد عزل الرجال العبيديين (الفاطميين) عن النساء لكى يقطع نسلهم.

ولكنه قال أيضاً فى نفس الحلقة نقلاً عن ابن خلدون إنه لا بد من إعمال العقل فى الخبر.

واصل الكاتب يوسف زيدان تطاوله على الزعيم الراحل أحمد عرابي، والإساءة له رغم مماته والتقليل من شأنه ودوره الوطني والبطولي ضد الإنجليز، واستعان «زيدان» ببعض أبيات الشاعر أحمد شوقي، فى محاولة لتزييف التاريخ ولدحض إنجازاته.

أكد أن الزعيم الراحل أحمد عرابي كان سبباً فى ضياع الوطن ودخوله فى نفق مظلم واستعمار دام لأكثر من 70 عاماً، مضيفاً أن المناهج الدراسية بها الكثير من الأخطاء، مثل وقوف أحمد عرابي أمام الملك، نافياً رؤية أحمد عرابي الخديو توفيق.

ولدعم موقفه من الثورة العرابية، كتب يوسف زيدان على صفحته الشخصية (فيس بوك) مقتطفاً من أبيات أحمد شوقي: «صغارٌ فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابى - عفا عنك الأباعدُ والأدانى.. فمن يعفو عن الوطن المصاب»، وذلك فى إشارة لشوقى وموقفه السلبى من ثورة عرابى، إذ إن أمير الشعراء أحمد شوقى استقبل عرابى بعد عودته من المنفى بقصيدة نشرت فى (المجلة المصرية) لصاحبها ومنشئها خليل مطران، العدد الثانى فى 15 يونيو 1901. وقعها بإمضاء (نديم)، وفيها تشهير واستهزاء بعرابى وتطلعه لأن يكون ملكاً على مصر.

وزعم يوسف زيدان فى منشور آخر على صفحته أن التاريخ ملىء بالشوائب والمعلومات المغلوطة، والخوف من الاقتراب أو المساس به، حيث قال: «إذا كان إلقاء بعض الحصوات فى البحيرة الراكدة العطنة، يحدث هذه الحركة وهذا الفزع.. فماذا لو ألقينا أحجاراً!».

ولم يقف الأمر عند حد الشخصيات السياسية، وإنما امتد إلى غيرها من الشخصيات الثقافية والأكاديمية، ففى شهر مايو الماضى، وخلال مؤتمرها الأول للإعلان عن نشأتها، أثارت مؤسسة «تكوين» الفكر العربى جدلاً فى أوساط المثقفين، بسبب تصريحات للباحث السورى فراس السواح والدكتور يوسف زيدان حول الأديب الراحل طه حسين، ففى معرض سؤال الأديب يوسف زيدان للباحث السورى عمن أفضل أنت أم طه حسين؟، رد السواح: «أنا وأنت أفضل من طه حسين».

والواقع أن فقه القانون الجنائي قد تناول موضوع القذف ضد ميت، متسائلاً عما إذا كان القانون يعاقب على القذف ضد الأموات، ومؤكداً أن لهذا التساؤل أهميته حين يتناول المؤرخ شخصية عامة كزعيم وطني أو شخصية عامة، مات منذ وقت غير بعيد، فينسب إليه وقائع محقرة ويحكم عليه حكماً يشينه، ويغلب أن يكون له أبناء أو أحفاد أو أرملة على قيد الحياة يؤلم نفوسهم ما ينسب إلى مورثهم، وقد يمس مكانتهم الاجتماعية.

ومن ثم، يرى الفقهاء وشرّاح القانون الجنائي أن هذا القذف لا يقع تحت طائلة العقاب إلا إذا كان من شأنه المساس بشرف الورثة الأحياء، مؤكدين أن هذا الرأي يكفل حرية البحث التاريخي: فإذا تناول المؤرخ شخصية المتوفى ونسب إليها وقائع صحيحة أو يعتقد فى صحتها، فلا يسأل عن قذف طالما لم تتوافر لديه نية المساس بشرف الورثة، وإنما كان رائده خدمة الحقيقة التاريخية فحسب.

ولكن يبقى التساؤل قائماً إذا كانت الوقائع المنسوبة إلى الشخصية التاريخية أو الأوصاف التى أسبغها البعض عليه لم يقم دليل على صحتها، كما هو الشأن فى وصف صلاح الدين الأيوبى بأنه أحقر شخصية فى التاريخ، وأنه قد أحرق مكتبة القصر الكبير، وأنه قد عزل الرجال العبيديين (الفاطميين) عن النساء لكى يقطع نسلهم.

ويبدو أن قصور نصوص التشريع الساري حالياً عن شمول هذه الوقائع بالتجريم، ونظراً لأن الأمر لا يتوقف عند حد حماية الورثة الأحياء، وإنما يمتد إلى حماية العقل الجمعي الوطني والاحترام الواجب للشخصيات التاريخية، لذا ارتأى البعض من المناسب تجريم إهانة الرموز التاريخية.

ففي دور انعقاده الذى بدأ فى شهر أكتوبر 2018م، كان من المقرر أن يناقش مجلس النواب مشروع قانون تجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية المقدم من النائب عمر حمروش، أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف، والذى سبق لرئيس مجلس النواب آنذاك أن قام بإحالته إلى لجنة مشتركة من لجنتي الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الإعلام والثقافة والآثار.

وبحسب مقدم مشروع القانون، فإن الهدف منه حماية الرموز والشخصيات التاريخية من العبث وعدم خداع الشعب بتشويه صورتهم، والإضرار بالمجتمع وزعزعة الثقة لدى الشباب فى الرموز والشخصيات التاريخية، وإثارة الجدل حول شخصيات ورموز تاريخية والتى قد تؤدى إلى آثار خطيرة على المجتمع.

وتضمنت المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون أن هناك إصراراً فى التهكم على الرموز والشخصيات التاريخية وخاصة مَن انتقلوا لرحمة الله، وأن الجدل الذى يحدث من إساءة لبعض الرموز التاريخية خطر وله آثار سلبية على الشعب المصري، وزعزعة الثقة ونشر الإحباط، وهو الأمر الذى تسعى له قوى الشر.

ووفقاً للمادة الأولى من مشروع القانون سالف الذكر: «يحظر التعرض بالإهانة لأى من الرموز والشخصيات التاريخية، وذلك وفقاً لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له، ويقصد بالرموز والشخصيات التاريخية الواردة فى الكتب والتي تكون جزءاً من تاريخ الدولة وتشكل الوثائق الرسمية للدولة، وذلك وفقاً للائحة التنفيذية له».

ونصت المادة الثالثة من مشروع القانون على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف كل من أساء للرموز والشخصيات التاريخية، وفى حالة العودة يعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 7 وغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تزيد على مليون جنيه»، أما المادة الرابعة من مشروع القانون، فتنص على أن: «يُعفى من العقاب كل من تعرض للرموز التاريخية بغرض تقييم التصرفات والقرارات وذلك فى الدراسات والأبحاث العلمية».

ولكن، ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات، ورغم تكرار وقائع التهجم غير المبرر على العديد من الشخصيات التاريخية الوطنية، فإن مشروع القانون سالف الذكر لم يتسنَّ مناقشته فى مجلس النواب، ولم يرَ بالتالي النور حتى تاريخه.