ليالي ذكر الله
لا تغيب عن بالي الليالي التي عشتها في بلدتنا بالصعيد "حاجر أبو ليلة" القابعة تحت سفح الجبل الشرقي بسوهاج، تلك الليالي التي حفلت بذكر الله مع شيوخ المديح وهمهمات الدراويش وصيحاتهم بعبارات الهيم في حب الله.
في كل عام كانت هناك أوقات محددة لبعض العائلات تستضيف فيها مشاهير المديح.
كانت تلك الليالي بمثابة عيدا لأهالي العائلة وأحبابهم الذي يشاركونهم فرحتهم بوجود الشيخ الفلاني كبير الطريقة الصوفية الفلانية الذي يتردد على هذه العائلة أو تلك محييا ليلة صوفية يشتاق إليها أهل البلد والبلاد المجاورة.
الليالي كانت فرصة للقاءات وتصفية النفوس مما قد يكون قد علق بها خلال الفترة السابقة، كانوا يطلقون على كل ليلة اسم الشيخ الذي يحييها، هذه ليلة الشيخ حجازي وتلك ليلة الشيخ إبراهيم، وأخرى ليلة الشيخ محمود، وهكذا كانت الليالي تعرف بأسماء شيوخها وكان كل مريد من الناس يذهب إلى الليلة والشيخ المفضلين لديه.
كنت صبيا عندما بدأت أتعرف على ذلك العالم الذي يسمى عالم الدراويش، ليس منهم غريب، كلهم أقاربي، أعمامي وأخوالي، كنت أندس بحجمي الصغير بينهم مقلدهم وأتطوح يمنة ويسارا مرتديا جلبابا صغيرا منتشيا بالمديح الذي يردده الشيخ ومعاونوه، قصائد وعبارات صوفية كنت أحرص على أن أحفظ أكبر قدر منها لكي أردده فيما بعد بين أقراني.
أتذكر ذلك الآن بمناسبة الإعلان عن إحياء الشيخ ياسين التهامي ليلة مديح بالقلعة، يرتبط اسم الشيخ ياسين في ذاكرتي بظهوره في أوليات مسيرته منذ ما يزيد على أربعين عاما.
كان شابا طبقت شهرته آفاق الصعيد أولا، انطلق من محافظته أسيوط لتجوب شهرته كل أنحاء الجمهورية، كان ياسين ظاهرة جديدة ومختلفة بالمقارنة بمن سبقوه، قدم المديح في صورة جديدة فهو متعلم وقارئ وحافظ للشعر الصوفي وهو ما ميزه عن غيره، كما قدم المديح ملحونا بصورة جعلت تمايل الدراويش مفعما بالنشوة الصوفية.
انتشرت قصائد ياسين في الكاسيت الذي كان يسيطر على سوق الفن والثقافة في ذلك الوقت، وصارت سيارات الصعيد بأكملها تسمع ياسين.
كان ياسين نقطة جديدة متألقة في سماء الصعايدة الذين عاشوا من قبل على الربابة والسيرة الهلالية، وبعد أن رحل جابر أبو حسين وسيد الضوي خفت صوت الربابة وجلجل صوت ياسين.