مَن وراء تسفير المتهمين الأجانب فى قضية "التمويل الأجنبى"؟

مَن وراء تسفير المتهمين الأجانب فى قضية "التمويل الأجنبى"؟
فى الحلقة الرابعة من كتاب «لغز المشير» الذى سيصدر قريباً عن «الدار المصرية اللبنانية»، يكشف الكاتب الصحفى مصطفى بكرى حقائق قضية ترحيل المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى إلى خارج البلاد فى عملية خاطفة أحدثت صدمة لدى الجميع.
ويرصد الكاتب وقائع اللقاء والحوار الذى جرى بين المشير حسين طنطاوى والمستشار عبدالمعز إبراهيم، رئيس محكمة استئناف القاهرة، يوم 28 فبراير 2012، بحضور الفريق سامى عنان رئيس الأركان، واللواء ممدوح شاهين. ويتضمن هذا الفصل حقيقة موقف الإخوان والدور المزدوج الذى لعبوه، والذى كشفه السيناتور الأمريكى جون ماكين، حيث التقى «ماكين» مع محمد مرسى رئيس حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية للجماعة، وسعد الكتاتنى، أمين عام الحزب فى ذلك الوقت.
فى تلك الأيام، كانت الأجواء فى مصر محتقنة، الشارع غاضب، وحتى حلفاء المشير طنطاوى، كانوا يتساءلون فى حسرة: ماذا جرى؟!
كان المشهد مؤلماً على الجميع، 19 أمريكياً وأجنبياً يغادرون القاهرة فى الثالث من مارس 2012، على متن طائرة أمريكية خاصة، رغم أنهم قبل ساعات كانوا مطلوبين للعدالة، على ذمة ما سُمّى بـ«قضية التمويل الأجنبى».
وتردّدت شائعات كثيرة، أحاديث عن الضغوط والتهديدات، بل والتواطؤ، وامتد الحديث إلى ضغوط، قيل إنها مُورست على القضاء المصرى لإلغاء قرار منع المتهمين من السفر.
ولم يكن الحديث عن التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى والنشطاء جديداً، كان الحديث يتردّد فى كل مكان، وكان النشطاء وملاك هذه الجمعيات يتباهون بالتمويل الذى يتقاضونه، واحدة من هؤلاء كانت تردد دوماً القول إن: هذه أموالنا التى حصلوا عليها من مصر عندما استعمروا البلاد لسنوات طوال، ولذلك نحن نستردها بطريقتنا.. لم تقل إن هذه الأموال كانت تذهب إلى جيوبهم مقابل التجارة بعِرض الوطن وأمنه القومى.
قُبيل تفجير هذه القضية الصاخبة بتعليمات مباشرة من المشير، كانت مصر قد دخلت فى لعبة شد الحبل مع الولايات المتحدة ودول غربية عديدة حول مدى علاقتها بتمويل هذه المنظمات التى كانت تقوم بدور هو أقرب إلى «التجسس».
وكانت البداية معروفة، منذ عام 2004 وأمريكا تقتطع جزءاً من المعونة وتقدمه إلى منظمات المجتمع المدنى، الحقوقية والسياسية، كان ذلك مخالفاً لاتفاقية المساعدات الأمريكية المقدّمة إلى مصر منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
محاورات ومناورات، رحل «بوش» وجاء «أوباما»، لم يتوقف التمويل الأجنبى، «عادت ريمة إلى عادتها القديمة»، بلغت قيمة التمويل المقدم طوال السنوات العشر التى سبقت ثورة 25 يناير للمنظمات حوالى 60 مليون دولار، اقتُطعت من قيمة المعونة الأمريكية المقدمة إلى مصر.
وبعد انطلاق ثورة يناير، أصبح الحديث عن التمويل الأجنبى يتردّد فى كل مكان، هذه المرة دخلت قطر على الخط بكل قوة، فى غمرة الأزمة والاحتقان والغضب من ممارسات نظام «مبارك»، سخر الجمهور مما يتردد، كل من يحاول طرح الأمر يُتهم بأنه من ذيول النظام السابق.
وكانت المخابرات الحربية والمخابرات العامة تتابعان فى هذا الوقت عملية الاختراق الأجنبى للعديد من المنظمات والنشطاء، خاصة بعد إصرار واشنطن على فتح مكاتب لثلاث من المنظمات الحقوقية الأمريكية، هى: المعهد الجمهورى الدولى الأمريكى، والمعهد الديمقراطى الوطنى الأمريكى، ومنظمة بيت الحرية الأمريكى، وغيرها.
وكانت مصر قلقة من دور هذه المنظمات، كانت تتابعها عن كثب، وترصد تواصلها مع العديد من نشطاء المظاهرات والمنظمات الحقوقية المصرية فى هذا الوقت، كانت تعليمات المشير «طنطاوى» للأجهزة المعنية تقضى بضرورة متابعة دور هذه المنظمات فى عملية التمويل لمخطط الفوضى وإسقاط الدولة.[FirstQuote]
وفى شهر مايو 2011، تم الإعلان عن تفاصيل جلسة لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى التى شهدت إدلاء السفيرة الأمريكية «آن باترسون» المرشحة كسفيرة للولايات المتحدة لدى مصر، بشهادتها أمام اللجنة.
وأكدت «باترسون» أثناء جلسة الاستماع أن الولايات المتحدة قدمت فى الفترة من فبراير 2011 إلى مايو 2011 مبلغاً يزيد على 40 مليون دولار لدعم الديمقراطية فى مصر، وأن هناك 600 منظمة مصرية تقدّمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية.
فى هذا الوقت، عقد مجلس الوزراء برئاسة الدكتور عصام شرف اجتماعاً غاية فى الأهمية، قرر خلاله تشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول قضية التمويل الأجنبى لهذه المنظمات، برئاسة وزير العدل محمد عبدالعزيز الجندى، وعضوية عدد من الوزراء والمسئولين، كان أبرزهم الدكتورة فايزة أبوالنجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولى، وكان ذلك فى يونيو 2011.
وباشرت اللجنة أعمالها من خلال مخاطبة الجهات المعنية، وتلقت المعلومات والأدلة حول مصادر التمويل وآليات صرفه والدور السياسى لهذا التمويل فى عمليات الفوضى والمليونيات التى شهدتها البلاد فى هذا الوقت.
وبعد التحقيقات والمعلومات التى توصلت إليها اللجنة، رأت أنه من الضرورى عدم قصر إجراء التحقيق على التمويل الأمريكى فقط، بل يجب أن يمتد ليشمل جميع أنواع التمويل الأجنبى والأغراض التى صُرفت فيه.
وتوصلت اللجنة بعد عدة أشهر إلى معلومات ودلائل فى منتهى الخطورة، تم اتخاذ قرار بإحالة جميع هذه المستندات إلى النيابة العامة التى طلبت من وزير العدل انتداب قاضٍ للتحقيق فى هذه القضية الخطيرة واستجواب المتورطين فيها.
وبالفعل طلب وزير العدل من محكمة استئناف القاهرة انتداب قاضيين للتحقيق، وصدر القرار بندب كل من المستشارين سامح أبوزيد وأشرف العشماوى.
فى هذا الوقت، قالت «أبوالنجا» إن «لجنة تقصى الحقائق توصلت إلى أن مجموع ما تم صرفُه من هذه المنظمات على النشطاء ومنظمات المجتمع المدنى ذات الطابع السياسى والحقوقى بلغ نحو مليار ومائتى مليون جنيه، صُرفت جميعُها فى أعمال وأفعال مشبوهة».
كما باشر قضاة التحقيق أعمالهم، حيث استمعوا إلى نحو 50 شاهداً، وبعدها تم البدء فى استجواب المتهمين الذين تلقوا تمويلاً خارج القانون. ولقد توصل قضاة التحقيق فى هذا الوقت إلى أن عدد المنظمات المصرية التى تلقت هذا التمويل بلغ نحو 400 منظمة، بخلاف النشطاء.
مع نهاية شهر أكتوبر 2011، قام فريق من محققى النيابة العامة بتفتيش 17 مقراً لمنظمات مجتمع مدنى مصرية وأجنبية، من بينها «المركز العربى لاستقلال القضاء» الذى يترأسه الناشط السياسى ناصر أمين، ومقرات المعهدين الجمهورى والديمقراطى الأمريكى وغيرهما، وقد عُثر فى أحدها على خريطة تقسيم مصر إلى أربع دويلات، كما عُثر على أسماء العديد من المنظمات والنشطاء الذين تلقوا دعماً من هذه المنظمات المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، وكذلك الحال على مستندات مهمة عن 67 موقعاً للقوات المسلحة فى السويس وتحركات وتمركزات للوحدات العسكرية.
وأبدت واشنطن انزعاجَها الشديد من حملات التفتيش والتوقيف، وطلبت من الحكومة المصرية وقف ما سمّته بـ«إرهاب المجتمع المدنى»، وسط تلميحات بوقف مساعداتها للحكومة المصرية، بينما قامت الخارجية الألمانية باستدعاء السفير المصرى لدى أمريكا، وسلمته احتجاجاً رسمياً على الإجراءات التى اتخذتها جهات التحقيق المصرية، وطالبت «كاترين أشتون» (مفوضة الاتحاد الأوروبى، فى ذلك الوقت) بوقف عمليات المداهمة، معتبرة أنها «لا تشجّع المناخ السلمى المطلوب للانتقال الديمقراطى».
وردت «أبوالنجا» على هذه الحملات، قائلة إن «حملات التفتيش تمت استناداً إلى قرارات صادرة من جهات التحقيق القضائية، ولا علاقة للحكومة المصرية بها، وهو الموقف نفسه الذى أكده وزير الخارجية فى هذا الوقت محمد كامل عمرو.
أما جماعة الإخوان فقد كان موقفها مريباً، إذ أعرب «الكتاتنى»، الأمين العام لحزب الحرية والعدالة، عضو مكتب الإرشاد، عن «رفض الحزب الطريقة التى تم التعامل بها مع منظمات المجتمع المدنى وغلق بعضها».
وقال «الكتاتنى»: «إن النظام السابق، نظام مبارك، لم يقم باقتحام المنظمات وغلقها بالشكل الذى نراه الآن، والذى كنا نتوقع ألا يحدث أبداً بعد ثورة 25 يناير، خاصة أن هذه المنظمات تتلقى التمويل الخارجى منذ فترة طويلة»، مطالباً الحكومة والمجلس العسكرى بمراعاة ما سماه بـ«الشفافية» فى كشف المعلومات الخاصة بهذه المنظمات، بحيث يكون الرأى العام على اطلاع بمجريات الأمور الخاصة بتلك القضية.
وكشفت التحقيقات التى أسفرت عن إحالة 43 متهماً إلى محكمة الجنايات، من بينهم 19 أمريكياً، عن أن هذه الأموال المقدّمة تم اقتطاعُها من المبالغ المخصصة من قيمة المعونة والمساعدات الأمريكية لمصر.
وكشفت «أبوالنجا» فى شهادتها أمام جهات التحقيق التى استمرت نحو 6 ساعات خلال شهر أكتوبر من عام 2011، عن أن «أحداث ثورة 25 يناير كانت مفاجأة للولايات المتحدة وخرجت عن سيطرتها، حيث تحولت إلى ثورة للشعب المصرى بأكمله، وعندها قررت الولايات المتحدة تجنيد كل ما لديها من إمكانات وأدوات لاحتواء الموقف وتوجيهه فى الاتجاه الذى يحقق مصالح أمريكا وإسرائيل معاً».
وأوضحت «أبوالنجا» أن «كل الشواهد كانت تدل على رغبة واضحة وإصرار على إجهاض أى فرصة لكى تنهض مصر كدولة حديثة ديمقراطية ذات اقتصاد قوى، حيث سيمثل ذلك أكبر تهديد للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ليس فى مصر وحدها وإنما فى المنطقة ككل».
وذكرت الوزير السابقة أن «ثورة 25 يناير خلقت الفرصة المواتية للنهضة المصرية لتبوّء مصر مكانتها، إلا أن السبيل لإجهاض هذه الفرصة كان عن طريق خلق حالة من الفوضى، وبحيث تتمكن القوى المناهضة لمصر إقليمياً ودولياً من إعادة ترتيب أوراقها فى التعامل مع التطورات فى مصر بعد ثورة 25 يناير.
وأشارت «أبوالنجا» فى التحقيقات إلى أن «الهدف الأمريكى للتمويل المباشر للمنظمات خلال الفترة من 2005 - 2010 كان يقتصر على مضايقة النظام السابق والضغط عليه بدرجة محسوبة لا تصل إلى حد إسقاطه، حيث كان الوضع فى علاقة الولايات المتحدة وإسرائيل بالنظام السابق مثالياً، وبالتالى لم يكن أى منهما يرغب فى إسقاطه»، مشيرة إلى أن «أمريكا وإسرائيل يتعذّر عليهما القيام بخلق حالة الفوضى والعمل على استمرارها فى مصر بشكل مباشر، ومن ثم استخدمت التمويل المباشر للمنظمات، خاصة الأمريكى منها، كوسائل لتنفيذ تلك الأهداف، مشيرة إلى إصرار الجانب الأمريكى على تقديم التمويل المباشر لمنظمات المجتمع المدنى المصرية والأمريكية العاملة على الأراضى المصرية.[SecondQuote]
وتضمنت التحقيقات التى أجراها قاضيا التحقيق سامح أبوزيد وأشرف العشماوى، اتهام 43 مصرياً وأجنبياً فى هذه القضية، على رأسهم صموئيل آدم لحود، المدير الإقليمى للمعهد الجمهورى الأمريكى لدى مصر، ونجل وزير النقل الأمريكى، ووجهت إليه وإلى الآخرين اتهامات بتأسيس منظمات دون ترخيص وتلقى الأموال من جهات أجنبية لتنفيذ أهداف معادية لمصر.. وتقرر منعهم من السفر وإحالتهم إلى محكمة جنايات القاهرة.
وقرر المكتب الفنى لمحكمة استئناف القاهرة إحالة القضية إلى دائرة المستشار محمد شكرى، خاصة أنها كانت الدائرة الوحيدة التى تعمل خلال شهر فبراير 2012، وذلك لنظر الطعن على قرار قاضى التحقيق بمنع المتهمين من السفر.
وعملاً بالمادتين 166، و167 من قانون الإجراءات الجنائية كان يجب الفصل فى الشق المستعجل من القضية فى خلال ثمانٍ وأربعين ساعة من تقديم التظلمات.
وحدد المكتب الفنى للمحكمة جلسة 26 فبراير 2012، إلا أن المستشار محمد شكرى أجّل نظر القضية بكاملها إلى جلسة 26 أبريل 2012، وقامت الدنيا ولم تقعد، احتشد المحامون المدافعون عن المتهمين أمام مكتب رئيس محكمة استئناف القاهرة وقدموا مذكرة قالوا فيها: إن الدائرة بذلك خالفت نص المادتين 166، و167 من قانون الإجراءات الجنائية ورفعوا الأمر إلى رئيس محكمة استئناف القاهرة.
أجرى المستشار عبدالمعز أحمد إبراهيم، رئيس محكمة الاستئناف، فى هذا الوقت، اتصالاً تليفونياً مع المستشار «شكرى» وأبلغه بأن قرار التأجيل فيه مخالفة لقانون الإجراءات، وأنه أصدر تعليماته بنظر القضية فى جلسة تُعقد فى يوم 28 فبراير، بعد أن قدم المحامون الموكلون عن المتهمين طلبات يتضررون فيها من مخالفة القانون وضرورة الفصل فى الشق المستعجل من قرار المنع، عاود «عبدالمعز» الاتصال برئيس الدائرة المستشار «شكرى» وأبلغه بوجود حشد من المحامين أمام مكتبه، فكانت الإجابة التى قالها «شكرى» هى أن «الدائرة كلها تستشعر الحرج وقررت التنحى»، وبالفعل تم نظر الأمر، وعملاً بقانون الإجراءات الجنائية قُبل التنحى وإعادة القضية إلى المكتب الفنى لرئيس محكمة الاستئناف، الذى أحالها إلى دائرة أخرى برئاسة المستشار مجدى عبدالبارى وعضوية المستشارين ممدوح طمبوشة وحسام الطماوى رؤساء الاستئناف للفصل فى الشق المستعجل فقط، أى النظر فى مدى قانونية قرار منع المتهمين من السفر، فى هذا الوقت طلب المستشار «عبدالمعز» مقابلة المشير طنطاوى، لأمر عاجل ومهم، لقد جرى اللقاء فى صباح ذات اليوم، وحضره إلى جانب المشير كل من الفريق سامى عنان رئيس الأركان واللواء ممدوح شاهين مسئول الشئون الدستورية والقانونية بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
فى هذا اللقاء تحدث «عبدالمعز» عن قضية التمويل الأجنبى، وأكد أن القضاء المصرى هو قضاء مستقل، وأن الحملة التى تستهدف النيل من القضاء تلقى استياءً كبيراً فى جميع الأوساط، وأن قضية التمويل الأجنبى شأنها شأن غيرها من القضايا، وأن هذه الحملة لا تقتصر على مواقف دول الغرب فقط، وإنما امتدت إلى مصر أيضاً، وقال المشير «طنطاوى»: «نحن نعتز بقضائنا، ورغم جميع الضغوط التى تمارس والتهديد بمنع قطع الغيار وزيارة رئيس الأركان الأمريكى وغيرها، إلا أننا نعتز بقضائنا ونرفض أى تدخل فى شئونه، ولا نسمح لأنفسنا أبداً بأى مواقف مناقضة لقناعاتنا»، وأضاف المشير: «المجلس العسكرى أخذ على نفسه عهداً بعدم التدخل أبداً فى شئون القضاء، والأحداث السابقة التى عاشتها مصر تؤكد ذلك».
لقد استمر الاجتماع لفترة من الوقت، خرج بعدها المستشار عبدالمعز أحمد إبراهيم من الاجتماع إلى مكتبه بدار القضاء العالى، وكان على ثقة بأن أحداً لن يستطيع أن يملى على القاضى، وأن ثقته ازدادت بعد هذا اللقاء مع المشير وبعض أعضاء المجلس العسكرى.
كان المحامون عن المتهمين ينتظرون عقد الجلسة والقرار الذى يمكن أن يصدر عنها، بدأت الأنباء تتردد فى كل مكان، وصلت معلومات لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون التى أكدت أن الأزمة فى طريقها إلى الحل، وكانت السفيرة «آن باترسون» تواصل استفزازاتها واتصالاتها بكافة الجهات المعنية، وقد تلقت تحذيراً من وزارة الخارجية المصرية، بعد قيامها بإرسال خطاب باسمها إلى المستشارين سامح أبوزيد وأشرف العشماوى قاضيى التحقيق تطالبهما بالسماح لواحد وعشرين أمريكياً ممنوعين بالسفر إلى بلادهم.
وفى هذا الوقت اجتمعت الدائرة الجديدة برئاسة المستشار مجدى عبدالبارى، وناقشت الأمر واستندت إلى القانون والقرارات السابقة وأصدرت قرارها بإلغاء منع الأجانب المتهمين من السفر وقدرت مبلغ مليونى جنيه كفالة لكل منهم.
وبمجرد صدور القرار قامت الدنيا ولم تقعد، فوجئ الرأى العام بتوارد الأنباء عن ترحيل المتهمين الأجانب، جرى اتهام المشير طنطاوى والمجلس العسكرى بالضغط على القضاء لترحيل المتهمين، سادت حالة من الإحباط الشارع المصرى، وبدأت الشائعات تتردد فى كل مكان عن «الصفقة المريبة»، وقيل إن أمريكا هددت بنزول «المارينز» والطائرات فى ساحة مبنى السفارة الأمريكية لترحيل المعتصمين داخل مبنى السفارة، وامتدت الشائعات التى انتقلت إلى الفضائيات والصحافة المطبوعة ووسائل التواصل الاجتماعى إلى معلومات تقول: إن أمريكا قررت وقف المعونة العسكرية ووقف توريد قطع غيار الطائرات والدبابات، التزم المشير الصمت ورفض المجلس العسكرى أن يُصدر بياناً يبرر فيه ما حدث، وكلما كان السؤال يوجَّه إلى أحدهم، كانت الإجابة على لسان الجميع: «القضاء مستقل ولا علاقة للمجلس العسكرى بالقرار الصادر من المحكمة من قريب أو بعيد»! ولم تتوقف السهام الموجهة عند المجلس العسكرى، بل امتدت إلى القضاء وتحديداً إلى المستشار عبدالمعز إبراهيم والدائرة التى أصدرت الحكم بإلغاء قرار المنع من السفر للأجانب، وتزايدت حدة الحملة الإعلامية وشراستها، وبالرغم من أن جماعة الإخوان انخرطت فى الحملة ضد المجلس العسكرى فإن واشنطن وجهت الشكر إليهم، كما أن جون ماكين فضح حقيقة دورهم، لقد كتب جون ماكين على صفحته فى موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» يقول: «فى الأسبوع الماضى فى القاهرة، كانت لنا لقاءات مع رئيس البرلمان (سعد الكتاتنى) وغيره من البرلمانيين المنتخبين حديثاً من مختلف ألوان الطيف السياسى، ومع قادة من جماعة الإخوان، ومع المشير طنطاوى وغيره من قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هذه الاجتماعات أعادت التأكيد لنا أن الناس من ذوى النوايا الحسنة فى كل من البلدين كانوا يعملون بجد لإيجاد حل إيجابى لهذه الأزمة الأخيرة»، وأضاف «ماكين»: «يشجعنا الدور الذى قامت به جماعة الإخوان وحزبها الأسبوع الماضى، وكان بيانهم فى 20 فبراير مهماً فى المساعدة على حل الأزمة الأخيرة.. ونحن نعلم أن اجتماعاتنا الأخيرة فى القاهرة مع رئيس مجلس النواب وقادة آخرين من حزب الحرية والعدالة والإخوان المسلمين وأعضاء البرلمان من مختلف ألوان الطيف السياسى مثل: محمد أنور عصمت السادات أن البرلمان يدرس تشريعات جديدة لضمان حقوق المنظمات غير الحكومية فى مصر، ونحن نؤيد بقوة هذه الجهود ونأمل أن تسفر عن بيئة جديدة من الحرية والحماية لجماعات المجتمع المدنى فى مصر»، ولم تقتصر الحملة على الإعلام وبعض القوى والأحزاب السياسية والجماهيرية، بل امتدت إلى بعض القضاة أنفسهم الذين شككوا فى الحكم، كما أن هناك من راح يتعامل مع ما جرى بمنطق «الصفقة» التى بمقتضاها -كما يدَّعون- أجبر المجلس العسكرى المستشار عبدالمعز إبراهيم على إحالة القضية من دائرة المستشار محمد شكرى إلى دائرة المستشار مجدى عبدالبارى، رغم أن الكل كان يعرف أن المستشار محمد شكرى تنحى لدواعى الحرج، كما أنه أجَّل نظر القضية إلى شهر أبريل بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية.[ThirdQuote]
فى هذا الوقت أكدت وزارة الطيران أنه تم السماح للطائرة الأمريكية التى أقلت المتهمين، باعتبارها طائرة حكومية مدنية، وقد تم أخذ موافقات كافة الجهات المعنية، ولم يتم إخطار المجلس العسكرى، لأن التعليمات التى كانت لدى الوزارة فى هذا الوقت هى أن يتم إخطار المجلس العسكرى فقط عن أى طائرات خاصة إقلاعاً وهبوطاً.
وهكذا يتضح أن الطائرة الأمريكية هبطت فى مطار القاهرة بتصديق دبلوماسى، وأن هبوطها جاء بعد صدور قرار المحكمة الصادر فى 28 فبراير 2012 والطائرة لم تصل إلا بعد أن قامت الجهات الرسمية بإبلاغ قرار المحكمة إلى الجهات الأمريكية المعنية بعد صدور الحكم وليس قبله، كما حاول البعض أن يروج لذلك، لقد وصلت الطائرة فى الثانية والنصف من ظهر يوم الأربعاء 29 فبراير وغادر المتهمون على متنها مساء ذات اليوم.
وأمام الحملة العنيفة فى وسائل الإعلام والشارع المصرى اضطر المستشار مجدى عبدالبارى إلى إصدار بيان للرد على ما أثير فى هذا الوقت، رغم أن ذلك ليس من تقاليد القضاء المصرى، حيث عدَّد الأسباب القانونية التى دفعته لإصدار حكم إلغاء قرار المنع من السفر للأجانب المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى.
ولقد ظلت الحملة فى هذا الوقت تتصاعد ضد المجلس العسكرى وضد المستشار عبدالمعز إبراهيم الذى بلغ سن التقاعد فى 30 يونيو 2012 ولم يسأله أحد حتى هذا الوقت عن شىء، وبعد تولى الإخوان الحكم أصدر المستشار أحمد أبوالمعاطى، رئيس محكمة استئناف القاهرة، قراره بندب المستشار عاصم عبدالحميد الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة لمباشرة التحقيق فى هذه القضية، وباشر القاضى تحقيقاته فى البلاغات المقدمة وسأل كل من رأى ضرورة لسؤاله، واطلع على الأوراق كاملة ولم يجد منها دليلاً واحداً لاستدعاء المستشار عبدالمعز إبراهيم أو الدائرة التى أصدرت القرار بعد أن جاءت خالية من أدلة ثبوت أى من الجرائم أو المخالفات التى توجب السؤال، ولم يجد القاضى مبرراً واحداً على تواطؤ المجلس العسكرى أو أى دور للمشير طنطاوى فيما سُمِّى بـ«تهريب الأجانب خارج البلاد»، ولذلك أصدر قاضى التحقيق قراره بحفظ القضية إدارياً.
ولم يكن بإمكان المشير أن يعترض، خاصة أن الدلائل القانونية والحيثيات كانت فاصلة فى الأمر، لقد كان بإمكانه أن يُصدر قراراً بالعفو أو يطلب إصدار قرار يسمح لهم بالسفر لدواعى الأمن القومى للبلاد، لكنه لم يفعلها، وترك القضاء يُصدر قراره استناداً إلى القانون والأحكام السابقة، ولقد مارست أمريكا ضغوطاً شديدة من أجل أن يسمح المشير بممارسة هذه المنظمات الأجنبية عملها مرة أخرى على أرض مصر، إلا أنه كان يقول دائماً: «هذا مستحيل، لقد أغلقنا الصنبور وانتهى الأمر»، وكان المشير يدرك تماماً أن الهدف قد تحقق، وأن المليونيات قد تراجعت بعد وقف تدفق المال السياسى إلى جيوب النشطاء والبلطجية، لكن البعض نسى أو تناسى أن الرجل الذى أصدر تعليماته بمواجهة المنظمات الأمريكية، وما يمكن أن تجره من أزمات مع واشنطن، لا يمكن أن يتواطأ ضد القضية التى كان هو وراءها قبل الآخرين.