حريق في «مركز» مصر!

اشتعلت النيران فى «الموسكى»، ولولا ستر ربنا لأصبح الضحايا بالعشرات والخسائر المادية بالملايين، والخسائر المعمارية لا تقدر بثمن! نعم تمت السيطرة على الحريق، والإصابات كانت طفيفة، مجرد «اختناقات».

ولمن لا يعرف الموسكى، فهو يقع فى قلب منطقة العتبة التى تضم المبنى التاريخى لبوستة العتبة، وهو فى الحقيقة ليس مجرد مبنى، ولكنه يُعد من أشهر المبانى التراثية بمصر عالمياً، حيث تم إنشاؤه فى نهاية القرن التاسع عشر، وتم بناؤه بالحجر الأحمر والحديد المشغول، كما يوجد بإحدى قاعاته نجمتان، الأولى بأعلى المبنى، والثانية فى أرضية المبنى، وهذه النجمة هى (مركز مصر) ويبدأ من خلالها قياس المسافة من القاهرة إلى المحافظات الأخرى، وكان يتم حساب رسوم إرسال الخطابات طبقاً للمسافة.

وهذا المبنى العريق الذى يقع على مساحة 2200 متر تعلوه ساعة ضخمة مزودة بجرس يدق على رأس الساعة، وتم إصلاحها مؤخراً من قبَل شركة «بج بن» التى صممت ساعة «بج بن» الشهيرة بلندن.. وكان من المفروض أن يكون مزاراً سياحياً جاذباً، كما يحدث فى كل بلدان العالم، ففى روسيا على سبيل المثال تم وضع مثل هذه النجمة على أرض ساحة واسعة مكشوفة تقع مباشرة فى مواجهة الكرملين، ويحرص كل زائر على أن يلتقط صورة وهو يقف فوق النجمة التى تتوسط روسيا.. والمنطقة هناك محاطة بمبانٍ أثرية يعود تاريخها لقرون من أيام روسيا القيصرية، وحتى عندما أرادت السلطات أن تبنى مولاً تجارياً حرصت على أن تكون واجهة المبنى متناسقة مع باقى المبانى القديمة التاريخية، وعند الولوج له تشعر وكأنك انتقلت من القرن التاسع عشر إلى القرن الواحد والعشرين.. وقد شاهدت ذلك بنفسى عندما كنت فى زيارة لروسيا ضمن الوفد الإعلامى المرافق للرئيس السيسى خلال زيارته لروسيا عام 2019.

وقد استخدمت جملة (من المفروض) أن يكون مبنى بريد العتبة والمنطقة المحيطة به مزاراً سياحياً، لأنه مستحيل - بوضع المنطقة الحالى - أن يصبح كذلك.. فالموسكى هو أكبر منطقة عشوائية وفوضوية فى العالم، فلا مكان فيه لموضع قدم، ومن التاسعة صباحاً حتى العاشرة مساء يفترش الباعة الجائلون الشوارع الرئيسية والجانبية، وتمتد «الفرشة» إلى طريق السيارات وأوتوبيسات النقل، وبالطبع لا يوجد رصيف للمشاة، كل «شبر» فى العتبة يحتله البائعون، يعرضون «شنط وأحذية وساعات وملابس داخلية وفساتين وبدل وأدوات صحية وشباشب ومفارش للسفرة ولمبات، وأدوات تنظيف ونظارات (مضروبة) وبنطلونات، ونجف وأحزمة»، وكل ما يخطر ولا يخطر ببالك يباع فى الشارع، البائعون ملتصقون ببعضهم والبضائع أيضاً، أما إذا انتقلت لمبانى العتبة التى من المفروض أغلبها أثرية وتدخل ضمن القاهرة الخديوية ومعظمها من طرازات فرنسية وإنجليزية وبلجيكية، ومن بينها مبنى صيدناوى المصمم بنفس الطراز المعمارى لمحل (لافيت) العالمى الموجود بقلب باريس، ومبنى تيرنج المواجه لمبنى البريد، المكون من خمسة طوابق، تعلوه ٤ تماثيل لرجال يحملون على ظهورهم الكرة الأرضية لا يوجد مثيل لها إلا فى ٥ دول فقط.. لكن جمال وتاريخ هذه المبانى مُختفٍ تماماً بعد أن تحولت وحداته إلى مخازن وورش ومحلات ودكاكين صغيرة، والرابط الوحيد الذى يجمعها هو العشوائية.. هذا وصف شديد التبسيط لحال (مركز مصر).

وبعد الحريق الذى اندلع فى الموسكى سارعت إلى مكان الحادث مستسلماً لشغفى الصحفى، فهالنى ما رأيت، وحمدت الله على سلامة الناس هناك، وعلى كفاءة رجال الإطفاء الذين نجحوا فى اختراق عشرات الكتل البشرية من البائعين والمشترين ومئات الأطنان من البضائع، وتمكنوا من إطفاء الحريق.

وللأسف بعد 48 ساعة عادت الأمور كما كانت، واكتفت الحكومة بدفع تعويضات عن الخسائر، دون أن تعلن عن مخطط جديد (لمركز) مصر، وتنظيم البائعين ونقل كل من يفترش الشارع إلى مكان أكثر أماناً وتنظيماً، وهذا لا يتعارض ولا «يقطع عيش» أحد.. ولا يجب أن ننتظر أن تقع كارثة ويروح ضحيتها العشرات ونخسر الملايين وتنهدم المبانى لكى نتنبه، هذه المنطقة ممكن أن تنفجر فى أى لحظة، لو حدث حريق آخر فى منطقة صعب الوصول إليها.

جهاز التخطيط العمرانى مسئول، ومحافظة القاهرة مسئولة، ووزارة التنمية المحلية مسئولة عن أى كارثة ستقع فى هذه المنطقة، ومسئولة أيضاً عن التنسيق فيما بينها لإعادة تخطيط وتنظيم وتطوير هذه المنطقة الحيوية التى لا نظير ولا بديل لها فى مصر، وتحويلها إلى منطقة جذب سياحى يدر دخلاً للبلد ويحافظ على تراثها.