عاصفة تجتاح إسرائيل

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

لم يخل المجتمع الإسرائيلى، المجذوب أغلب أفراده إلى الحياة العسكرية، من منظومة قيم يتكئ عليها، منها ما يشكل وجوده عنصراً أساسياً فى بناء الدولة العبرية التى قامت عام 1948، ومنها ما يبرر سلوك الجيش والمستوطنين النازع إلى الاستحواذ والاعتداء المفرط المستمر، ومنها ما يصنع همزات الوصل بين المجتمع وهذا الجيش، الذى يمثل فى التحليل الأصيل والنهائى العصب الرئيسى، أو العمود الفقرى للدولة.

وبعض هذه القيم مشدودة إلى نصوص دينية، تفسيراً وتأويلاً، حتى لو كان متعسفاً، وبعضها نبت فى ركاب أحلام من فكروا فى صناعة إسرائيل عبر مشروع صهيونى انطلق مع نهاية القرن التاسع عشر، ووفق فكرة أوروبية بالأساس. وهناك قيم أخرى خلقتها الممارسة أو السجلات اليومية، والحوليات التاريخية، التى أوجدها الصراع الدائم لإسرائيل فى سبيل إنشائها، واستتباب أمرها، ثم نظر قادتها إلى تعزيز نفوذها الإقليمى، وأداء الوظيفة التى خلقت من أجلها، كرأس حربة لمشروع هيمنة غربية على منطقة الشرق الأوسط، لم تنفصم عراه، ولم تخمد نار مطامعه على مدار القرون التى خلت.

ولأن إسرائيل لم تغفل وضع استراتيجية لها، تنقسم إلى خطط تتراوح بين شن الحرب وإجبار الآخرين على قبول الأمر الواقع، وبين طرح أفكار حول تعاون إقليمى تريد هى أن تمثل مركزه المنتفع به قبل غيرها، فقد تصرفت على مدار عقود مضت على أن هذه الاستراتيجية لها من التماسك والثبات ما يضمن لها تحقيق غاياتها الكبرى، بلا جدال ولا عناء، وأن القيم التى تنطوى عليها، والتى تراها هى إيجابية وضرورية، ويراها كثيرون غير ذلك، لها من المتانة ما يجعل كسرها صعباً، والخروج عليها أصعب.

لكن جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتضع هذه القيم فى اختبار قاس، حيث لم يدر بخلد مؤسسى الدولة العبرية، ولا القائمين على أمرها تباعاً من النخبة السياسية، أنها قابلة للاهتزاز أو الانكسار أو المراجعة. فقد وجد الإسرائيليون أنفسهم، وللمرة الأولى، يتحدثون عن تحديات وجودية، وراح بعضهم يتحدث عن عقدة العقد الثامن، مستنداً إلى زوال دولتين سابقتين أقامهما اليهود، وانهارا بعد ثلاثة أرباع قرن.

لم تفلت القيم الإسرائيلية من اهتزاز فى سالف الأوقات، شأنها فى هذا شأن دول كثيرة، لم يكن بوسعها أن تتفادى عواصف العولمة الاقتصادية والثقافية، وما يساق فى ركابها من قيم اجتماعية وإنسانية مختلفة، لكن العاصفة التى صنعها «طوفان الأقصى» كان الأشد هبوباً وجموحاً، قياساً إلى أنها أتت مما تراه إسرائيل العدو القريب والأساسى، وهو المقاومة الفلسطينية بشقيها المدنى والمسلح.

وإذا كانت إسرائيل قد امتصت من قبل آثار انتفاضات الفلسطينيين فى عام 1936، ومعركة الكرامة فى عام 1970، وانتفاضة الحجارة فى عام 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وكثير من المواجهات مع فصائل المقاومة فى غزة أعوام 2008 و2014 و2021، فإن عملية «طوفان الأقصى» التى تحولت إلى حرب استنزاف لجيش إسرائيل ومجتمعه، من الصعب على الدولة العبرية أن تتفادى آثارها الجارحة لمنظومة القيم المؤسسة للدولة، رغم العنف الشديد الذى تواجه به المقاومة الفلسطينية، والذى وصل إلى حد «الإبادة الجماعية» لأهل غزة، باعتبارهم الحاضنة الشعبية للمقاومين.

فإسرائيل اُضطرت إلى التخلى عن قيمة مركزية حكمت تصرفاتها سابقاً، وتتمثل فى إعلاء قيمة الفرد ومكانته، فبدت حكومتها مستعدة للتضحية بالأسرى الذين قنصتهم حماس فى هجومها المباغت فى السابع من أكتوبر 2023، وهى تضحية تقوم وفق ما تسمى «خطة هانيبال».

كما وجد جيش إسرائيل نفسه، مع عجزه وتعثره، فى حاجة إلى مراجعة الكثير من القيم التى تحكم بناءه، وتراتبيته، والعلاقة بين قادته وأفراده، والمهارات التى يكسبها المجندون أثناء خدمتهم العسكرية، وتصحبهم إلى حياتهم المدنية فيما بعد، والتى طالما تباهى بها العسكريون الإسرائيليون باعتبارهم الأساس المتين للدولة كلها.

وأعتقد أن اهتزاز القيم الحاملة للدولة على هذا النحو، وانكشافها أمام العالم كله خصوصاً الفلسطينيين، من الأمور التى تشغل بال بيوت التفكير فى إسرائيل، التى لا ينظر القائمون عليها إلى ما يجرى نظرة العسكريين الباحثين عن انتصار أو ثأر بأى ثمن، ولا نظرة السياسيين الذين يخشون فقدان مناصبهم بفعل الحرب، وتعرضهم للمساءلة والمحاسبة، ولا نظرة أصحاب الشركات التى تعرضت لخسارة كبيرة بسبب الحرب، إنما ما هو أعمق من ذلك، وما يرتبط بعلاقة الفرد بالدولة، وعلاقة اليهود فى العالم كله بها، ومدى تقدير الغرب، فيما بعد، لأهمية إسرائيل بالنسبة لمصالحه المستقبلية.

ومهما كانت نتيجة الحرب، فإنها، دون شك، قد أحدثت جرحاً غائراً فى عقول الإسرائيليين ووجدانهم، ليس من اليسير اندماله فى القريب العاجل، وسيكون له موضعه وموقعه فى التقييم الاستراتيجى لما جرى، وقت أن تنهمر الأسئلة على الرؤوس حول تغيير القيم التى تحكم الجيش، وتهندس حياة المجتمع القائم حوله، أو بمعنى أدق، القائم به.