سجينة «حكايتي مع الإخوان»

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

أحد عيوب إعلامنا أنه يسعى إلى أن يحدد للناس مسارهم، ولا يريد أن يراهم إلا من الزاوية التي ينظر منها، أو الثقب الضيق الذى ينفذ منه إليهم.

وهذا العيب طالما أسقط فى طريقه ضحايا كُثر، من بينهم الكاتبة انتصار عبدالمنعم، التي صارت الآن سجينة كتابها «مذكرات أخت سابقة.. حكايتي مع الإخوان»، وتحكى فيه سبب خروجها من هذه الجماعة، وتُعدد مثالبها، لا سيما القيود التي تفرضها على الفتيات والنساء، وكيف لا تطيق مبدعات الخضوع والامتثال للتنظيم الصارم، الذي يطلب منهم «السمع والطاعة» أولاً وأخيراً.

الإعلام الآن لا يُحدث «انتصار» إلا عن كتابها هذا، ولا يريد أن يستضيفها إلا لتعيد ذكر تجربتها هذه، ويهمل أن لها أعمالاً أخرى، تعتز بها جداً، وهى التي تحدد الهيئة التي تريدها لنفسها، والصورة التى تريد الناس أن يروها عليها، ويكون فيها وبها ومعها موقعها وموضعها، فهى لم تخرج من «سجن الجماعة السياسية الدينية» لتجد نفسها فى «سجون الجماعات الإعلامية».

«انتصار» أصدرت عشرة أعمال للأطفال، وثلاث مجموعات قصصية هى: «عندما تستيقظ الأنثى» و«نوبة رجوع» و«تنويعات على ذات الرحلة»، وعدة روايات هى «وقائع سنوات التيه» و«جامعة المشير» و«حرف الأجداد» و«جوكات» و«كبرياء الموج»، وأخيراً أصدرت رواية «نخلة شافع.. حكايات البحر والبحيرة»، التى قرأتها مؤخراً، وأراها تُكمل ثلاثية مع روايتى «كبرياء الموج» و«جوكات»، وهى كتابة عما تعرفه صاحبتها، التى عاشت وعركت وعرفت الكثير عن المجتمع الموصول بين الإسكندرية وبحيرة إدكو.

«نخلة شافع» رواية عن مكان ساحر، وبشر مدهشين، وربما السحر والدهشة هو الذى دفع الكاتبة إلى أن تقسم روايتها إلى عشر صدفات، كل صدفة منها تشكل حكاية، وتتواشج الحكايات فى عقد واحد، نرى بهاءه من خلال الصور الغنية بالجمال، والعبارات البليغة، والسرد العفى المتمهل، دون أن يغيب عن عيوننا الخيط الذى يربط الأصداف، وهو مسار السرد الذى يمضى وفق بنية محكمة، يبدو أنها قد تكونت فى رأس الكاتبة كاملة قبل أن تجلس للكتابة، أو أن هذا الإحكام جاء متقطعاً كلما انشغلت الكاتبة بروايتها.

نحن هنا أمام عالم الصيادين، كرافد ثقافي مهم فى الحياة الاجتماعية المصرية، فيه الخوف من البحر إن غضب، وترويضه بحثاً عن الرزق، ومنازلته جرياً وراء مغامرة. فيه الناجون من نوة، والغرقى فى هياج الموج وقت النوات الرهيبة، وفيه الأسماك والأصداف والثبج، وغناء الصيادين، وفيه الطيور المهاجرة، القادمة من الشط الآخر.

البحر ليس بالنسبة للروائى ماء مالحاً، أزرق اللون، وأسماكاً متنوعة، لكنه حكايات كثيرة مسكونة بالخوف والرجاء والعشم والطمع والطموح والفقد والغربة والموت، وهو المعنى الساكن عند التقاء الأزرقين، الماء بالسماء، كأحد شواهد وحدة الوجود، وهو الأشباح الهائمة لأرواح غرقى تسكن البيوت والعشش، وهذا ما كان يهم الكاتبة، التى يبدو أنها لم تكتف بمعرفتها المباشرة عن هذا العالم، إنما عمقتها عبر قراءة عن البحر، تظهر لنا بين حين وآخر فى ثنايا السرد، جنباً إلى جنب مع آثار معايشتها لعالمها، وألفته لها.

مع هذا لا تقتصر انتصار عبدالمنعم فى روايتها على التقاط أسرار البحر وتفاصيلها الدقيقة، والتي هى ليست غريبة على سردها الروائى والقصصي، لكنها تعمقت فى استكناه ثقافة الصيادين، وأنماط البشر الذين يتماسون معهم مثل الفلاحين والغجر، لتصنع سبيكة اجتماعية جامعة فى تشكيلها بين المألوف والغريب، عن الذين يعيشون على أطراف الماء المالح، ظهورهم إلى الريف الذى يحدهم من نقطة إلى أخرى، ووجوههم إلى العالم البعيد خلف ماء المتوسط.

تبقى نخلة شافع، هى المركز الذى تدور حوله أغلب الأحداث، أو فيها المغزى والمعنى الجوهري للرواية، فهي نخلة تقف شامخة عند مقام الشيخ شافع القائم عند مقابر إدكو، لتبدو وسيطاً بين الحياة الدنيا والآخرة من ناحية، ورمزاً للتمسك بالحياة فى قلب الموت من ناحية ثانية. وهى فى الرواية مصدر إلهام للراوى العليم الذى يسرد على جذعها الحكايات التى جمعها، ثم يطلقها على مهل، فى رحلة ذهاب وإياب بين الواقع والخيال، وبين البحر والشاطئ، وبين الحاضر والماضى.

أخيراً، فمن المهم فى هذا المقام أن أنوه إلى أن «انتصار»، المولودة فى إدكو بالبحيرة، حصدت عدة جوائز مثل جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب، وجائزة إحسان عبدالقدوس فى القصة القصيرة، وجائزة سلسلة الكتب الثقافية للأطفال لمكتب التربية العربى لدول الخليج، وجائزة عبدالغفار مكاوي فى القصة، وجائزة يوسف أبورية فى الرواية.