الفضيلة عند المصرى القديم
- يرجع إلى المصرى القديم بدايات الشعور بالوازع الخلقى وقضايا الخير والشر والصراع بينهما، وإن البحث فى التراث الثقافى للمصريين القدماء يكشف عن أن حضارتهم حضارة أخلاقية جوهرها الحق والخير والعدالة، وإن أول وأهم المصادر التى يمكن أن نتلمس من خلالها الجانب الأخلاقى فى مصر القديمة هى تلك الحكم والوصايا التى تركها أصحابها وأطلق عليها بعض الباحثين أنها: حكَم من أجل الإرشاد إلى الحياة، ومنها على سبيل المثال وصايا «بتاح حوتب» الذى كان حاكماً على «منف»، وعندما اعتزل منصبه قرر أن يترك لولده كتاباً يتضمن الحكمة ويُعد من بدايات التعاليم الأخلاقية فى الدولة القديمة، وأهم ما امتازت به تلك الوصايا أنها تنطوى على مراقبة المرء لسلوكه، وسعيه إلى تحسين خلقه وما يقتضيه ذلك من جهد، فالإرادة الإنسانية حرة فى أن تختار بين الخير والشر، وأهم ما يملك الإنسان هو عقله الذى هو أساس حياته وصحته وسعادته، فأراد بتاح حوتب توجيه المرء إلى ضرورة أن يمارس إعمال العقل فيستطيع به ضبط شهواته وانفعالاته وأهوائه، ومن ثم تحث التعاليم على ضرورة التزام الصمت وهدوء الفكر مع تجنب الغضب والمشاحنات التى لا طائل منها، والتطلع إلى حياة اجتماعية مسالمة وهادئة، ثم يدعو إلى ضرورة ضبط النفس والاعتدال فيما يجد المرء صعوبة فى التغلب عليه مثل: الجشع، والشراهة، وكتمان السر، وحفظ اللسان والأمانة، وأخيراً على المرء أن ينبذ فى حياته كل الأهواء غير المنضبطة، وفضيلة ضبط النفس كانت المبدأ الذى أصبح من الأركان المهمة فى فلسفتى أفلاطون وأرسطو فيما بعد.
- أما «كتاب الموتى»، فى الدولة الحديثة، المأخوذ عن بردية «آنى» التى لا تزال موجودة بالمتحف البريطانى فنجد فيه منظومة أخلاقية متكاملة شملت كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والدينية، وتكشف عن النضج الأخلاقى الذى وصل إليه المصرى القديم فى إدراكه للدور الذى يلعبه القلب فى تحديد وتوجيه سلوك المرء، فهو بمثابة الشاهد الداخلى على أفعاله، وفيه يقول «آنى» معبراً عن هذه القيم والحفاظ عليها فى دفاع الميت عن نفسه فى العالم الآخر أمام الآلهة الذين يقطنون قاعة العدل والحق: «إنى لم أرتكب إثماً ولم أسرق، ولم أقتل، ولم أنطق بالأكاذيب، ولم أُسبِّب ألماً أو حزناً أو بكاء لأحد، ولم أرتكب الزنا، ولم أتعامل بخبث، ولم أرتكب الغش، ولم أتسبب فى خراب أرض محروثة، ولم أتلصص على أحد أو أرتكب نميمة، ولم أكن حانقاً غاضباً إلا من أجل الحق، ولم أغرر بزوجة إنسان، ولم أدنس نفسى أو أسبب الرعب لإنسان، ولم أرتكب الفُحش، ولم أصم أذنى عن كلمات الحق والعدل، ولم أمارس الكبرياء، ولم أشعل نيران خصام أو عراك، ولم أحكم دون رويّة، ولم أسعَ فى وشاية، ولم أضخم الكلمات، ولم ألوث أبداً المياه، ولم أنطق باستهزاء، ولم أحرم الرضيع طعامه».
- وفى بردية «نبسنى، الناطق بالحق» تتردد نفس المعانى فى اثنين وأربعين بنداً، ومن الملاحظ أن عدد هذه البنود يتفق مع عدد الآلهة الاثنين والأربعين الموجّه إليهم الخطاب والجالسين فى قاعة العدل، وفى كل هذه البرديات تأكيد على احترام المقدسات الدينية والحفاظ عليها، وعدم تدنيسها بأى شكل من الأشكال، وكل ذلك من أجل طلب الأبدية السعيدة، ولهذا يمكن القول: إن الحكم والوصايا جمعت بين الحياة العامة والتفلسف، ولكنها مالت إلى قدر أكبر من الواقعية واهتمامها بالسلوك العملى، وكل هذا موجه لكل إنسان دون أى اعتبار لمكانته الاجتماعية أو درجة ثرائه، فالجميع خاضع للقانون الأخلاقى.
- إذا كان هذا هو شأن المصرى القديم الذى ترك لنا آثاراً خالدة تدل على إبداعاته فى حضارته القديمة على المستوى المادى والأخلاقى، فما لنا نحن قد توقفنا وأصبح حالنا على ما نحن عليه؟ هل اختلفت الجينات بمرور الزمن وأصابها الضمور فتوقف الإبداع وتعطل العقل وفسد القلب ومعه الأخلاق أم ماذا حدث للمصريين؟ وقبل كل ذلك هل المواطن المصرى على وعى حقيقى بعظمة حضارته القديمة وإنجازاتها الرائعة؟