لم تفلح حرب الإبادة الجماعية التي تواصلها إسرائيل في غزة في خلق واقع جديد يوافق مخططات اليمين المتطرف، الذي يحكم ويظن أنه يتحكم في إعادة رسم خريطة المنطقة، دون اعتبار لتعارض كل ما يقوم به مع مصالح القوى الإقليمية التي باتت جميعها في حالة اختلاف كامل مع مجمل ما يجري خاصة مع عدم استجابة المفاوض الإسرائيلي لكل محاولات وقف الحرب.
الرأي العام في إسرائيل يضغط هو الآخر في اتجاه الوقف الفوري للحرب حفاظاً على أرواح من تبقى من الأسرى على قيد الحياة، مع قناعات مؤكدة بعدم جدوى استمرار القصف والقتل وإفشال كل جولات المفاوضات عن عمد واستمرار اختلاق مساحات خلافية مع الحليف الرئيسي متمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمد الاقتراب من حد الصدام مع الوسطاء الرئيسيين في المنطقة والذين باتت لديهم قناعة أن إسرائيل لا تريد سوى استمرار الحرب لأهداف غير معلنة، تتعلق بسياسات جديدة تثبت السيطرة على مجريات الأمور في المنطقة، وإن خالفت كل المواثيق الدولية والقواعد الدبلوماسية أو المصالح المشتركة مع أطراف فاعلة ومهمة في المنطقة.
نتنياهو لا يهتم بفداحة نتائج كل ما ارتكبته قوات الاحتلال سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، أو أخطر التداعيات المتمثلة في الاحتمال المؤكد لاشتعال جبهة جنوب لبنان، وما قد يترتب عليه من توسيع دائرة الصراع ليشمل كل المنطقة، وسيستدعي حتماً بعض الأطراف التي قد لا تتحلى بضبط النفس والحكمة التي مارستها خلال الشهور الماضية.
الحرب والتجويع لن تفلح في الإفراج عن الأسرى، ومن الوارد أن تتسبب في قتلهم وهو ما لا يمثل الاهتمام الأول لحكومة تمعن في صناعة مناطق صراع وتخلق مواجهات في كل شبر تسيطر عليه كما أنها لا تمتلك أي رؤية موضوعية لطبيعة ما قد تسفر عنه عمليات القتل من زيادة انتشار الكراهية، بما يؤسس لحالة من الرفض لفكرة الحلول التفاوضية لدى شعوب المنطقة في جهتي الصراع بشكل يصعب تداركه.
الانقسام والتفسخ داخل المجتمع الإسرائيلي لا يشغل بال جنرالات الحرب، كما أنهم استناداً إلى الدعم الأمريكي المطلق لا يهابون منظومة العدالة الدولية المتمثلة في المحكمة الجنائية التي ستصدر مذكرات الاعتقال بحقهم هذا الشهر على الأرجح ، ولا يتخوف أحد منهم من تأثيرات الاقتراب من الانتخابات الأمريكية واحتمالات تغير الإدارة، خاصة وأن كلا الحزبين تتشابه مواقفهما وتكاد تتطابق في مواقفها من إسرائيل، بل ويتسابق كل من بايدن وترامب في إظهار مدى دعمهما غير المقترن بالاستجابة لبعض الضغوط الرامية لوقف الحرب.
لم تعد أهداف الحكومة الإسرائيلية تقتصر على ما سبق وأعلنته مع بداية الحرب بل أنها تسعى للتخلص من كل الالتزامات الموثقة وفق اتفاقية أوسلو وتجتهد في القضاء على السلطة الفلسطينية، وتبذل كل جهودها للإجهاز على فكرة حل الدولتين وتركز على خلق إدارة مدنية في الضفة وغزة بلا صلاحيات اعتماداً على فرض الأمر الواقع الذي خلقته الحرب والقوة العسكرية ما يمثل «الخروج الإسرائيلي الأخير» من المسيرة الساعية لخلق عالم ينعم بقدر نسبي من السلام.
فرص السلام باتت ضئيلة وكل القراءات تؤكد أننا نتجه إلى وضعية معقدة تسببت فيها الممارسات الإسرائيلية وعمليات القتل والتجويع في غزة والضفة، بخلاف تدهور العلاقات الدبلوماسية وعدم احترام كل الاتفاقيات مع دول وقوى هي الأهم في المنطقة، والتي أسهمت في حفظ حالة من الاستقرار النسبي في المنطقة طوال عقود، ما لم يكن للمجتمع الدولي دور أكثر فاعلية يستطيع فرض حلول عادلة لصراع يتجدد ويهدد السلم العالمي.