مرآة جلال الدين الرومى

ياسر حارب

ياسر حارب

كاتب صحفي

لا أستطيع أن أتحدث عن جلال الدين الرومى وتاريخه وآثاره فى هذه المساحة الضيقة، فالحديث عنه كمحاولة ملء زجاجة بالنور، لا يفعل ذلك إلا مجنون أو صاحب همّة عالية، ولا أظننى منهما. يقول جلال الدين الملقب بـ«مولانا» أى «الخواجة»: «أَمَر العِشقُ كلامى فظَهر، ما جدوى المرآة إن لم تعكس الصور؟»، وكأنه يقول إن فى داخل كل واحد منا مرآة خاصة به، أى حقيقته، التى عندما تكون صافية فإنها تعكس النور والنقاء والمحبة. أو كما يحصل عندما يتحمّم أحدنا بماء ساخن ويخرج من الحوض ليجد مرآة الحمام قد كستها الرطوبة، فلا يستطيع أن يرى انعكاسه فيها، حينها، يمسح بيده عليها حتى تتضح له ملامح وجهه. يقول مولانا: «أتدرى لماذا لا تُنبئ مرآتك؟ لأن الصدأ لم يُجْلَ عن وجهها». ويعنى بالصدأ الصفات السيئة التى تملأ النفس البشرية، التى لو حاولنا حصرها فى مجتمعاتنا اليوم لوجدنا أن أغلب النفوس مليئة بالحقد، والكره، والعنصرية، والجهل، وهو الأكثر خطورة. ولذلك فإن الحياة فى كثير من مجتمعاتنا المسلمة هى انعكاس لهذا الصدأ المتراكم على مرايانا، والنتيجة أن يدخل مسلم إلى مسجد، وليس إلى كنيسة، ولا معبد، ولا برلمان، ولا قاعدة عسكرية، ولا مركز تجارى، فيفجّر نفسه، ظناً منه أنه على بُعد ثوانٍ من لقاء الحور العين! ورغم أن التفجير مرفوض تماماً فى هذه الأماكن وغيرها، إلا أننى ما عدتُ أتفاجأ من أخبار التفجيرات الانتحارية، رغم أنها تؤلمنى كثيراً، إلا أنها نتيجة طبيعية لكل المحاضرات والخطب والكتب والمقالات والفيديوهات والصوتيات التحريضية التى تملأ السمع والبصر منذ أكثر من ثلاثين عاماً، نشأ خلالها جيل على كره الآخر، ووجوب الاعتقاد بكفره وضلاله. ولم ينسَ الزارعون حينها أن يصوروا لنا الجهاد وكأنه الغاية العظمى من هذه الحياة، حتى إذا ما ذهب أولادهم اليوم وانضموا إلى «داعش»، ركضوا إلى السلطات يبكون ويرجونهم أن يعيدوهم من هناك! أقول لكل من راكم الصدأ على مرايانا، ولكل من جعلنا نشعر بالذنب عندما كنا نكتب ونتحدث ونحذر من الخطاب الأصولى المتطرّف، هل أدركتم الآن لماذا كنا نكتب؟ إن من يحذّر من التطرف الدينى ليس ضد الإسلام، ولكنه ضد من يحجب النور عن المجتمع، وضد من يحاول إقناعه بأنه يملك مفاتيح المعرفة، وأنه يعلم من الله ما لا نعلم. لدى اختبارٌ شخصى أسميه «اختبار المرآة»، حيث كلما وقفتُ أمام المرآة حدّقتُ فى وجهى جيداً وسألتُ نفسى إن كنتُ أستحيى من النظر فيها أم لا؟ لم تنكسر عينى فى عينى حتى الآن، ولكن اليوم الذى سيحدث فيه ذلك، سأكون قد ارتكبتُ ذنباً كبيراً جعلنى أخجل من نفسى حتى إننى لم أستطع أن أنظر إليها فى المرآة، وهو ما أتحاشى فعله أبداً. أتمنى من كل إنسان يدعو إلى العنف، ويكفّر الآخر، ويرفع يديه بالدعاء على من يختلف عنه، ويشتمه ويهين مقدساته، ثم ينام ويصحو على خبر تفجير مسجد حيّهم وموت عشرين من جيرانه فيه، أتمنى منه أن يقف أمام المرآة الآن ويحاول أن ينظر فى عينى نفسه.. إما أنه لن يستطيع أن ينظر فيها من شدة الخجل والانكسار، وإما أنه سيرى، بسبب الصدأ والضباب المتراكم على المرآة، شخصاً مشوهاً، بائساً، تحول من إنسان إلى وحش همّه إبادة الآخرين، تماماً كما كان يفعل التتار. يقول مولانا: «تُلقّن الحكمة على لسان الواعظين، بقدر همم المستمعين»، أى أن ذنب أولئك الوعّاظ الذين كرّهونا فى كل إنسان غيرنا، وأقنعونا بأن البشرية كلها ستدخل النار إلا نحن، ليس ذنبهم وحدهم، بل حتى نحن المستمعين، لم نكن ذوى همة عالية، بل سلمنا عقولنا وقلوبنا لهم دون حتى أن نتجرأ على السؤال، فلم يُلقّنوا الحكمة كما اعتقدنا، بل افتعلوها واخترعوها، ثم صدّقنا وكبّرنا. إن آفة العقل الإسلامى اليوم هى الجهل، فنحن فى المرحلة الأدنى من سلم الحضارة، وهى أننا نجهل أننا نجهل، ونحتاج، لنبدأ الصعود، أن نعلم أننا نجهل، وهى المرحلة الثانية. أما المرحلة الثالثة فهى أن نعلم أننا نعلم. عندها فقط سنستطيع أن نقول إن الإيمان شأن خاص بين الإنسان وربه، وكل ما يَلْزَمُنا من الآخر هو شخصه لا اعتقاده، عقله لا نيّته، عطاؤه لا مذهبه. يقول «جبران»: «الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد». إن أبسط وأعظم شىء نحتاجه لكى لا تُفجّر المساجد، ولا تُقطع الرقاب، ولا يُحرق الأحياء باسم الدين، هو أن يعود أحدنا إنساناً مُجرّداً من وَهْم «الاصطفاء»، ولكى يصل إلى ذلك، فإنه فى حاجة إلى مرآة جديدة، أو على الأقل، أن ينظّف مرآته القديمة.