الدكتور جابر طايع يوسف يكتب: تحوُّل ثقافي في تاريخ مصر
![د. جابر طايع يوسف](https://watanimg.elwatannews.com/image_archive/840x473/443490651718983796.jpg)
د. جابر طايع يوسف
انتظر بعض المصريين من هذا الحدث التاريخى الكبير نزول المن والسلوى من السماء، والبعض انتظر تحقيق أهداف آنية شخصية ذاتية من منصب أو جاه أو مركز مرموق، وآخرون استشعروا أن «٣٠/٦» قامت من أجل توفير الربح الوفير من أقل مجهود، وآخرون استشعروا أن «٣٠/٦» قامت من أجل إكرام الصفوة من النخبة والمثقفين، وتفرقت نظرة الناس إلى هذا الحدث الكبير؛ كالذين تفرقت نظرة عيونهم إلى ليلى، وليلى متيّمة بغيرهم جميعاً وهى لا تعبأ بمغازلتهم لها. كلٌّ يزعم حب ليلى، وليلى لا تعبأ بمن يتمتم بكلمات يغازلها بها ممزوجة بحب الوطن والوطنية، وهذا يُذكرنا بالذين أطلقوا لحاهم فى عهد الإخوان وكأنهم تذكّروا سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ٢٠١٢ وسرعان ما أزالوها فى ٢٠١٣.
ولكن بقيت التقنيات الحديثة توثق هذا التحول فى حياة الذين يبحثون عن المنفعة فى كل زمن حتى ولو كان على حساب الأوطان، ولكن تشابهت قلوبهم مع مدعى الوطنية، ولكن المخلصين لهذا الوطن قلوبهم متيّمة بهدف واحد وهو إصلاح ما أفسده الدهر، وإعمار الأرض التى ضاقت بساكنيها وشوارعها التى أصبحت جراجاً مفتوحاً يضيق بساكنيه، فضلاً عن الفرص الضائعة من المستثمرين الجادين الذين يبحثون عن مناخ آمن، ولكن نظرة قائد ثورة «٣٠/٦» هو والمخلصين من الشعب المصرى والتى استجاب لها القائد السيد عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع آنذاك كانت متيّمة بأمر آخر، وهو تحقيق الهدف دون النظر إلى شعبية قد تتآكل، ولكن إخلاصه لربه ووطنه ورؤيته للإصلاح جعلته يتجرد للهدف الذى ينشده، ليعكس بشخصيته على هذه الثورة من قوة وحزم وتقشف وضبط السلوكيات والشفافية ليتوسع فى شبكات الطرق والمشروعات القومية لتتهيأ مصر لأن تكون فى مصاف الدول المتقدمة بدلاً من التغنى بأمجاد الماضى.
نعم، أيقن القائد عبدالفتاح السيسى أن مصر كانت فى الماضى تسبق غيرها، ولكن الحاضر لا يبشر بهذا، فحوَّل ثقافة الشعب المصرى إلى المستقبل فأقام البنية التحتية التى ترفع من رصيد مصر وتليق بكونها قاطرة الحضارة فى المنطقة، وتحمل المسئولية بمفرده ولم يُلق بتبعات هذه الإخفاقات التى تصاحب آلام الولادة للوطن (الجمهورية الجديدة) على الحكومة أو على آحاد الوزراء، ولكن بجرأة وقوة وشجاعة المسئول قال «أنا المسئول»، حيث عمل على بناء الوعى للمواطن المصرى وتغيير ثقافته خلال عشر سنوات.
فبدّل ثقافة التقاعس والخنوع والاتكال على الغير إلى ثقافة الحركة والعمل من أجل الحصول على لقمة العيش الكريمة من (عرق جبينك) وابتكار الوسائل الفردية لتحقيق معيشة مُرضية إلى حد ما، فبدلاً من ثقافة السهر على المقاهى إلى ساعة متأخرة من الصباح تأتى ثقافة النوم مبكراً من أجل الاستيقاظ للعمل مبكراً (لأن الدين أمرنا بالتبكير فى طلب الرزق) لتحقيق المسايرة مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى تعيشها البلاد، وكذلك التحول من ثقافة الرضا بالقليل والحد الأدنى من العلم إلى ثقافة بذل الجهد من أجل الارتقاء بالنفس من الناحية العلمية والثقافية والحصول على أعلى الدرجات العلمية حتى يستطيع المواطن المصرى اللحاق بالركب وإيجاد عيش كريم.
وكذلك التحول من ثقافة الحصول على أى شهادة علمية إلى ثقافة الانتقاء للاحتياجات من سوق العمل والتخصصات المطلوبة بدلاً من وجود خريجين ليس لهم سوق عمل وتكون بطالة مقنّعة، وكذلك التوسع فى المنظومة القيمية من ثقافة التعاطى مع السوشيال ميديا سعياً إلى بلوغ الترند على حساب المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والوطنية إلى ثقافة المواطن المسئول (وقفوهم إنهم مسئولون) الذى يحقق الاصطفاف الوطنى حول القيادة التى تعمل بشفافية وإخلاص وتجرد من أجل الوطن.
ورغم كل هذه التحولات السريعة التى تمر بالمواطن المصرى، وهى فوق طاقته ولم يعشها منذ عقود من الزمن، مقارنة بالتحول من إيجاد بنية تحتية ومشروعات قومية وشبكات طرق والعمل على إيجاد حياة كريمة للفئات المهمشة التى لم تصل لها أيادى الحكومات المتعاقبة منذ عقود من الزمن، هذه الطفرة تُبرز قوة وصلابة المواطن المصرى والقدرة على التحمل لشظف العيش وقدرة وإرادة القيادة السياسية فى بناء وطن حر يستطيع مسايرة التقدم والازدهار الذى تشهده المنطقة.
إن ثورة ٣٠/٦ وقيادتها الواعية، ومن خلفها القوات المسلحة، أدركت أن الوطن يحتاج إلى مصارحة ومكاشفة من القيادة السياسية عن أوجاع الوطن وآلامه، وبدلاً من التغنى بأمجاد الماضى لا بد من خلق مستقبل لهذا الوطن، وأن المستقبل لا يُبنى بالمسكنات، ولكن يحتاج إلى عملية جراحية وفطام، وعلى الشعب المصرى أن يتحمل آلام الجراحة والصبر على صرخات الفطام والنظر إلى مستقبل أفضل، أرونى مريضاً تعافى بعد المرض وأصبح يمارس حياته الطبيعية، هل يتذكر لحظة المرض أم يعيش ويهنأ بلحظة التعافى، بل أرونى إنساناً حكى لنا أو تذكّر لحظة فطامه بعد أن أصبح مفتول العضلات قوى البنيان يستمتع بصحته، فهكذا بناء الأوطان يحتاج منا إلى الصبر والتحمل والاصطفاف خلف القيادة السياسية متجاهلين الآلام حتى نصل إلى بر الأمان بمصرنا الحبيبة، فإن مصر تمرض، ولكن لن تموت إن شاء الله.
* رئيس قطاع الشئون الدينية بوزارة الأوقاف سابقاً