رأى فى قضية المؤسسات الصحفية القومية
لم تعد مشكلات المؤسسات الصحفية القومية خافية على الجميع؛ الحكومة والعاملين بتلك المؤسسات والشعب كله. والكل يدرك أن مشكلات الصحف المملوكة للدولة إنما تعود إلى أسباب إدارية وتنظيمية، ناهيك عن أزمات مالية وعجز أغلبها عن سداد رواتب العاملين بها. والحل المطروح دائماً من جانب المسئولين عن إدارتها هو أن تقرضها الحكومة ما يساعدها على الاستمرار، حماية للعاملين بها، بغض النظر عن اعتبارات الكفاءة ومدى جدواها فى خدمة الوطن والمواطنين، ومدى إقبال القارئ المصرى عليها بعد ضياع أغلب أسواقها فى العالم العربى، وبعد ثورة الصحافة الإلكترونية.
إن مشكلة المؤسسات الصحفية القومية أكبر من اختصارها فى مشكلة مالية وعجز عن سداد المرتبات وغيرها من الالتزامات، بل إن المشكلة الحقيقية هى أن استمرار تملّك الدولة لمؤسسات صحفية وإن أطلقت عليها صفة «القومية» لا يتيح لها الحرية الكافية والاستقلال عن توجهات الدولة وسياساتها، الأمر الذى يحد من مصداقيتها ولا يستقيم مع هدف تأسيس دولة ديمقراطية حديثة فى مصر.
ودعونا نتحدث بصراحة، ففى الحقيقة أن الحكومة هى التى تدير ذلك الملف، وليس الدولة التى تتكون حسب الدستور من السلطتين التشريعية والقضائية، وهما لا تملكان شيئاً فى المؤسسات الصحفية القومية، وتبقى السلطة التنفيذية التى تضم رئيس الجمهورية والحكومة، وهى الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة بنص الدستور فى المادة 163، ثم الإدارة المحلية.
إن الأمر الواقع يبين أن الحكومة فى الوضع الحالى تعمل بتنسيق تام مع توجهات رئيس الجمهورية، وهى التى تدير المؤسسات الصحفية القومية لحسابها وإن قالت بغير ذلك، وإلى أن تكون لدينا حكومة منتخبة تمارس صلاحياتها التى نص عليها الدستور وتعبر عن توجهات وبرامج الحزب أو الأحزاب الفائزة بأغلبية أو أكثرية مقاعد مجلس النواب ستكون السيطرة الفعلية على المؤسسات الصحفية القومية للحكومة.
ومن ثم يكون من الواجب إعادة النظر فى استمرار تلك المؤسسات القومية، باعتبارها رمزاً للنظم الشمولية التى عانت مصر منها سنوات طوال، ومراجعة مبدأ تملّك الدولة (وفى الحقيقة والواقع هى الحكومة) للمؤسسات الصحفية «القومية».
إن التعامل مع قضية المؤسسات الصحفية القومية يتطلب قراءة منفتحة لنص المادة 72 من الدستور الذى يُلزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية المملوكة لها والملاحظ أن المشرّع الدستورى لم يستخدم فعل «تلتزم» الدولة، واكتفى بكلمة «ضمان»، والضمان فى اللغة أقل من الالتزام، كذلك المادة 212 التى تنص على أن تكون «الهيئة الوطنية للصحافة» هى «القائمة على إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة»، فإن قراءة هاتين المادتين بما يتفق وفلسفة الدستور التى عبّرت عنها ديباجته، وهى جزء لا يتجزّأ منه، توضح أنهما لا يلزمان الدولة بملكية «مؤسسات صحفية قومية» بالضرورة، وإنما المعنى المقصود منهما «أنه فى حال تملكت الدولة مثل تلك الصحف، فإنها تلتزم بضمان استقلالها، وفى تلك الحالة يصبح إنشاء هيئة وطنية تقوم على إدارتها مطلباً غير مستغرب، وإن كان لا يزال مناقضاً للإطار الديمقراطى الذى يستهدفه الدستور!
ويقوم المنطق المعارض لاستمرار ملكية الدولة لتلك المؤسسات الصحفية وأنا أثمن ذلك المنطق بأنها فى حقيقة الأمر صوت الحكومة فقط وليست صوت الشعب، فنحن نعلم أن من يملك الشىء يكون له سلطان وتأثير عليه يتفق وتوجهاته وأهدافه. ومن ثم فإن امتلاك الدولة (أى الحكومة فى حالتنا) للصحف القومية لا يختلف فى جوهره عن ملكية رجال الأعمال أو شركات القطاع الخاص للصحف «الخاصة» (أو القنوات الفضائية الخاصة، التى يطلق عليها أحيانا «المستقلة»)، فوظيفة المالك هى ذاتها فى كلتا الحالتين، وقد يكون المالك الخاص أكثر حرصاً على ما يملكه، بخلاف المالك العام، وتلك حقيقة تتضح من حجم المشكلات المالية والمديونيات المتراكمة على الصحف القومية والتليفزيون الرسمى واضطرارها إلى طلب العون من (الحكومة)! إذ لو كانت الصحف الخاصة تعانى ولو أقل من 1% من مشكلات صحفنا القومية، لبادر أصحابها إلى دراسة أوضاعها ومحاولة تصحيح مسببات تلك المشكلات وإن لم يستطيعوا فالاحتجاب أو الإغلاق هو الحل، وهو ما نشهده حالياً من إعادة هيكلة وأحياناً توقف بعض القنوات الفضائية الخاصة.
وإلى أن تنشأ الهيئة الوطنية للصحافة، يجب أن تمارس الدولة (أى الحكومة حتى الآن) مسئولياتها، بأن تبدأ بدراسة جادة لأوضاع تلك المؤسسات ومراجعة أسباب خسائرها وحجم العمالة غير المبرّرة فيها، وتحديد المسئولين عنها، سواء السابقون أو الحاليون، ومحاسبتهم على إهدار «مال الشعب». وأيضاً يكون واجباً فحص مدى مهنية القائمين على تلك الصحف وكفاءتهم وخبراتهم التى كانت مبرراً فى اختيارهم لشغل مناصبهم القيادية فى مؤسسات مملوكة للدولة، أى للشعب، ومدى وضوح المعايير الموضوعية حين اختيارهم. كما يكون من الواجب التحقق من مدى ثقة الشعب فى تلك الصحف ومستوى إقباله على «شرائها» واقتناعه بأنها صوته المعبر عن أهدافه ورغباته؟ كذا من الواجب التحقيق فى كيفية تصرف تلك المؤسسات فى أموالها، وهى مملوكة، كما يقال، للدولة.
إن قضية المؤسسات الصحفية القومية هى شأن عام يجب أن يخضع للبحث الجاد والموضوعى من جميع جوانبه، وبتجرد، إلا من الانحياز إلى هدف إقامة دولة ديمقراطية، للوصول إلى الحقيقة فى هذا الأمر، والاتفاق على منهجية موضوعية للتعامل مع تلك القضية ومراحل تنفيذها، ثم طرح كل تلك البدائل لحوار مجتمعى جاد، وذلك تمهيداً لإنشاء الهيئة الوطنية المستقلة للصحافة!!