د. أحمد الطيب.. والليث بن سعد

كان الليث بن سعد أفقه من مالك، لكن المصريين كعادتهم لم يقدروه قدره وبخسوه حقه ولم يقم تلاميذه به فى الوقت الذى أنصف أهل الحجاز فقيههم مالك وقدروه قدره.. هذا الأمر يحدث كثيراً فى مصر التى تعشق إهالة التراب على أكثر علمائها وفضلائها ورجالاتها العظام. ومن بين الذين يحاول البعض إهالة التراب عليهم شيخ الأزهر الحالى د. أحمد الطيب الذى يتعرض لهجمات شرسة أكثرها مغرض وبعضها من أناس لا يعرفونه.. فالدكتور الطيب ليس من عشاق التحدث عن نفسه أو عمله أو إنجازاته أو تلميع نفسه أو تلميع الآخرين له.. فقد ورث الزهد والتصوف السنى والشرعى عن آبائه وأجداده بما يحمله التصوف الحق من الزهد فيما عند الناس والزهد فى أضواء الكاميرات ووهج الشهرة وبريقها الكاذب. ولعل الوسطية التى تميز بها الأزهر وشيوخه عبر تاريخه الطويل كانت سبباً فى خلوده وبقائه لأكثر من ألف عام، فى حين أن جميع الفصائل والجماعات والمدارس الدينية حوله تتآكل من حين لآخر. فالأزهر قد يضعف ولكن وسطيته واعتداله تحميه من الانهيار.. ولكل شيخ من شيوخ الأزهر بصمة وميزة يتميز بها. أما د. أحمد الطيب فكانت بصمته الأساسية هى الحلم والزهد فى الدنيا.. فالرجل رغم مكانته الدينية والعلمية يعيش حتى اليوم فى شقة بسيطة مكونة من 3 غرف وهى شقته القديمة جداً التى عاش فيها طوال حياته.. وقد رغب بعض الملوك والأمراء العرب فى بناء قصر أو فيلا تليق بالشيخ ومكانته ووسطوا لذلك عشرات الوسطاء فإذا به يأبى إباءً شديداً ويقول إن هذه الشقة تتسع لى وزيادة.. وأستطيع أن أستغنى عن غرفة فيها.. ولو أن غيره ممن يحاولون اغتياله معنوياً بين الحين والآخر تلقى عُشر هذا العرض ولو تلميحاً لوافق على الفور مرحباً. ود. أحمد الطيب هو شيخ الأزهر الوحيد فى تاريخ مصر كله الذى رفض أن يتقاضى مرتباً أو علاوة أو بدلات منذ توليه المشيخة وحتى اليوم.. وهو يعتبر عمله حسبة لوجه الله.. وهو الذى أغلق باباً كان يدر على سلفه الملايين شهرياً بعقد قران الشيخ على زيجات أكابر الناس وأثريائهم فى أول يوم له فى المشيخة، قائلاً: «إن وقار المشيخة وهيبتها أهم من أموال الدنيا». وأتحدى كل الذين تطاولوا كثيراً على الشيخ، ومنهم إعلاميون وصحفيون وشباب وشيوخ من «التحالف»، أن يفعل أحدهم شيئاً من ذلك أو يتبرع بمرتبه لمدة عام واحد فقط فى صمت دون ضجيج. فالدكتور الطيب لا يحب الحديث عن نفسه ولو علم أننى سأكتب عنه لأقسم علىّ ألا أكتب.. وقد اعتدت ألا أكتب عن الأحياء شيئاً، خاصة إذا كانوا فى أى منصب.. ولكنى أكسر هذه القاعدة لما هالنى من كم التطاول الذى نال هذا الرجل الذى يرأس أكبر مؤسسة دينية سنية لم يستغلها فى يوم من الأيام فى الدفاع عن شخصه أو التحدث عن إنجازات وهمية، فالرجل لا يريد من دنيا الناس شيئاً.. وقد عرض استقالته مرات ومرات ليستريح من عناء هذه المسئولية التى تزيد مرضه وتحمله ما لا يطيق من الأعباء التى يشعر بثقل السؤال عنها أمام الله. ود. الطيب من أسرة عاشقة للتدين الفطرى والصوفى الممزوج بالعلم والفقه.. وورث ذلك عن أبيه وجده.. ولأسرته وشقيقه ساحة فى الأقصر هى مقصد لكل فقير أو عابر سبيل أو مسافر لا يجد طعاماً أو مبيتاً أو سائلاً أو مستفتياً أو مريضاً أو طالب حاجة.. وفى أوقات الطعام يبذل للجميع بسخاء وكرم وجود. وقد كان الشيخ الطيب فى إحدى الدول العربية فعلم بذلك أحد الملوك الذى نزل ضيفاً على الدولة فأرسل له شنطة كهدية فتحها الشيخ فوجدها مملوءة بالذهب والمجوهرات.. فأصر على ردها فوراً وظل واقفاً بـ«البيجاما» ولم ينم وقتها حتى اطمأن على ردها وقد كان يظنها فارغة حينما قبلها. والشيخ يرفض أخذ أى هدية من أحد حتى لو كان من أصدقائه، خاصة بعد توليه المشيخة، ويقول: إننى لن أستطيع رد كل هذه الهدايا.. وما دمت لن أستطيع ردها فلن آخذها. لقد بلغ د. أحمد الطيب من الحلم والعفو والصفح مبلغاً عظيماً لم يبلغه أى أحد، فقد شتمه شباب الإخوان وحلفاؤهم فى كل محفل بأفظع الشتائم على جدران جامعته فلم يلوث لسانه يوماً بكلمة فاحشة أو يسىء إليهم.. وشتمه إعلاميون وتطاول عليه صحفيون وبعضهم تجاوز تجاوزاً فجاً فى حقه، ولكن الشيخ وهو قادر على إلجامهم لم يرد عليهم بكلمة أو يفكر فى الإساءة إليهم أو حتى شكواهم إلى أحد. لقد آلى الرجل على نفسه أن يضرب المثل للجميع فى الصبر والحلم والعفو والصفح، ولا ينجر فى أصعب الأوقات إلى سباب أو شتائم أو ترهات منه أو من أحد تلاميذه.