الحدائق.. غربان "معششة" داخل أشجار نادرة والفراغ "صاحب مكان"

كتب: محمود عبدالرحمن

الحدائق.. غربان "معششة" داخل أشجار نادرة والفراغ "صاحب مكان"

الحدائق.. غربان "معششة" داخل أشجار نادرة والفراغ "صاحب مكان"

«مبقاش فيه حاجة باقية من زمان فى القناطر غير اسمها وشوية الشجر دول اللى الموظفين بيجروا ينضفوهم كل ما يبقى فيه مسئول جاى، وفى الأيام العادية لا بنشوف مسئولين ولا موظفين ولا زوار ولا حد خالص، وبمجرد ما بنلاقى فيه حركة وناس رايحة جاية بتنضف وتظبط بنعرف إن حد من الباشوات هيشرفنا»، تكرار تغير المسئولين فى مديرية البيئة والرى بمحافظة القليوبية يعد السبب الرئيسى فى عدم الاهتمام بإعادة الحدائق المطلة على كوبرى القناطر الخيرية إلى ما كانت عليه، من وجهة نظر أسامة عبدالهادى، مستأجر كافيتريا إحدى الحدائق منذ 21 عاماً، حيث يقول، المقارنة بين الماضى والحاضر فى أعداد الزائرين غير منصفة، لأنه يوجد فارق كبير بين العمل بالسياحة والعمل من أجل «لم الإيجار وأكل العيش علشان حالنا يمشى»، فى الماضى كنا نضع برامج ترفيهية وعروضاً فنية، بالإضافة إلى ابتكار أنواع جديدة من المأكولات والمشروبات للزبائن، وكنا نصنف أنفسنا ضمن العاملين بالسياحة، بسبب حالة ضغط العمل التى كنا نتعرض لها، أما الآن فقد تغير الحال وأصبحنا «بياعين شاى وبيبسى وأحياناً عصاير، والزبون عاوز ياخدهم بسعر الأكشاك اللى بره الحديقة وكأنه بيقول لنا احمدوا ربنا إنى جيتلكم هنا من أصله» وعندما تقدمت إلى الإدارة المشرفة على الحدائق ببرامج شبابية فنية تساعد فى جذب الزبائن مرة أخرى، رفض المسئولون فيها بشدة «وقالوا لى كل عيش وخليك فى حالك، وهددونى بفسخ التعاقد فى حالة تصعيد الاقتراح إلى المسئولين فى الوزارة أو أى مكان آخر»، يضيف الرجل الأربعينى، على مدار الأربعة أعوام الماضية تحولت الحدائق إلى «جناين» مملوءة بالأشجار وطيور الغربان، نادراً ما يأتى إليها زائرون باستثناء أعياد شم النسيم وبعض المناسبات العامة التى تشهد مجىء عدد لا بأس به من الزوار، وساهم فى ذلك قرار الإدارة المشرفة بغلق الحدائق وتفريغها من الزبائن قبل الساعة الخامسة مساء، وإلغاء حفلات الأفراح ورفض استقدام فرق الفنون الشعبية والرقص كما كان يحدث من قبل، الأمر الذى أثر بالسلب على أعداد الزائرين وجعلنا لا نقوى على سداد قيمة الإيجار الشهرى وتراكم عدة شهور علينا، مما تسبب فى بيع شقتى التى كانت تؤوى أسرتى وانتقلت للعيش فى شقة بالإيجار. مساحات خضراء شاسعة تنتهى عند مرمى نظر الزائر، تحوى أشجاراً عملاقة نادرة، تظلل على مقاعد خشبية وعدد من الكافيتريات التى يدفع مستأجروها مبلغ 2400 جنيه شهرياً لكل واحدة منها، تنتهى عند حافة مياه نهر النيل المارة من قلب محافظة القليوبية، محملة بشتى أنواع الزبالة. يقول عبدالله الأحمر، موظف بإحدى حدائق القناطر الخيرية، إن إقبال الزائرين على الحدائق أصبح ضعيفاً جداً، واقتصر على الرحلات المدرسية -إن وجدت- وبعض الأسر التى تعيش بالقرب من مدينة القناطر تأتى يوم الجمعة فقط، الذين يبدون اعتراضهم بشكل مستمر على رفع قيمة تذكرة الدخول من جنيه واحد إلى جنيهين طبقاً لقرار الإدارة المشرفة، بحجة أن الحدائق تعتبر «رحلة الغلابة» وأنهم لا يحصلون على خدمات تتطلب وجود تذكرة دخول، خاصة أنهم يدفعون حساب المأكولات والمشروبات التى يحصلون عليها من الكافيتريات بالأسعار السياحية. وأضاف «الأحمر»: فى الماضى كانت الرحلات النيلية تخرج من قلب القاهرة للمجىء إلى هنا فى القناطر عبر مراكب سياحية، يحمل الواحد منها ما يزيد على 500 زائر، أجانب وعرب ومصريين، مما كان يتيح لجميع العاملين بالحدائق فرصة أكبر للعمل وكسب الرزق، وعلى مدار الأربعة أعوام الماضية توقفت تلك الرحلات تماماً بسبب الحالة الأمنية السيئة وانخفاض أعداد السياح، فى ظل قرب موقع الحدائق من قسم الشرطة ومصلحة السجون اللذين شهدا أحداث عنف كثيرة وقت وقوع ثورة 25 يناير، كثيرون اضطروا لترك العمل هنا والاتجاه للبحث عن لقمة عيشهم فى مكان آخر بسبب حالة الكساد الكبيرة التى ضربت المكان على مدار الأربع سنوات الماضية، يستطرد «الأحمر»: مثلما فعل أصحاب المراكب الشراعية الصغيرة التى كانت تقف على مرسى الحدائق لاصطياد زبائنهم، واضطروا للرحيل عن المكان بعد مكوث أيام وأسابيع «من غير ما يستفتحوا علشان مافيش زباين». واتفق حسين زغلول، 54 سنة، موظف بمكتبة سوزان مبارك الموجودة داخل حديقة، مع سابقه فى انخفاض أعداد الزائرين لنسبة تزيد على الـ80% -طبقاً لتقديره- ويتجلى ذلك من وجهة نظره فى تراجع أعداد الأطفال المشتركين فى دورات القراءة داخل المكتبة من 450 إلى 80 طفلاً فقط، وأضاف «زغلول»: أعمل هنا منذ ما يزيد على 25 عاماً، كانت القناطر «بتشغى زوار ومابيبقاش فيها مكان تعرف تحط فيه رجلك» وهو ما حدث عكسه خلال الأربع سنوات الماضية، فتبدل الحال وأصبح الزائر الذى يأتى إلى هنا يشتكى من حالة الملل والفراغ المحيط به وغياب الروح عن المكان، والأهم من ذلك مطالبة مسئولى الحدائق له بالانصراف فى حوالى الساعة الرابعة عصراً حتى يتمكنوا من تسليم الحديقة فى تمام الخامسة مساء، فترتسم على وجهه ملامح الضيق والغضب «وكأنه بيقول بينه وبين نفسه والله مانا جاى هنا مرة تانية». التذاكر التى يتم قطعها يومياً تتراوح ما بين 10 إلى 20 تذكرة بإجمالى مبلغ لا يزيد على 50 جنيهاً، إجمالى دخل الحديقة، طبقاً لما قاله «م. ن» موظف قطع التذاكر فى الحديقة، الذى أكد انقضاء أيام كاملة دون دخول زائر واحد إلى الحديقة، بالإضافة لانصراف زائرين بعد دقائق من دخولهم الحديقة، نتيجة الفراغ الذى يسيطر عليها، الأمر الذى أثر بالسلب على دخله المرتبط بحجم توزيع التذاكر «لما الناس بتقل أنا دخلى بيتأثر لأن مرتبى بسيط ومربوط بحجم بيع التذاكر، لأن دى الحوافز بتاعتنا، ولما اشتكيت للمشرفين قالوا لى واحنا نعملك إيه نشترى منك التذاكر علشان تتبسط»، وأضاف الرجل الخمسينى: المقارنة بين الماضى والحاضر ظالمة «قبل الثورة كنت بقفل دفترين تلاتة على الضيوف، وكنت بجمع فى اليوم الواحد أكتر من ألف جنيه، عكس اللى بيحصل النهارده بعانى من الملل من قلة الشغل» الأمر الذى يتطلب ضرورة ابتكار أنشطة جديدة وفقرات غنائية وترفيهية تجذب الصغار والكبار، طبقاً لرؤية موظف قطع التذاكر، حيث يقول «القناطر الخيرية ماكنتش مجرد فسحة، دى روح هادية ساكنة فى المكان وراحة نفسية، لدرجة إنى كنت ببقى عارف الزباين بالشكل، واليوم اللى بييجوا الحديقة فيه». أكثر من نصف العاملين داخل الحديقة التى يشرف عليها موظف قطع التذاكر تركوها على مدار الأربع سنوات الماضية، ما بين عمال كافيتريات ومسئولين عن ألعاب ترفيهية كانت تنتشر من قبل داخل الحدائق، لتتحول الحدائق، من وجهة نظره، إلى مجرد أرض واسعة خضراء يتوه فيها الزائرون من قلة أعدادهم، أو يضطرون للرحيل بسبب شعورهم بالوحدة.