السياسة التى غابت عن حديث الرئيس
فى حمامات الساونا، يخرج الناس من غرفة البخار الساخن ليقفوا تحت دش الماء المثلج، ثم يعودوا لتكرار تلك العملية أكثر من مرة. هذا هو ما يحدث فى السياسة المصرية، فما إن نحتفل بالمؤتمر الاقتصادى ويبلغ تفاؤلنا به عنان السماء، إلا وندخل فى مرحلة الشك فى أداء الرئيس وحكومته حتى يبلغ بنا القلق أقصى مداه.
لا الفرح العارم بمنجزات المؤتمر الاقتصادى كان مبرراً، ولا الإحساس المبالغ فيه بالقلق الذى تلا ذلك له ما يبرره. المؤتمر الاقتصادى كان جيداً، ولكنه ليس حلاً سحرياً لكل مشاكل مصر الاقتصادية كما حاولوا تصويره. الوضع الراهن مقلق، ولكن لا يوجد فيه ما يبرر كل هذا القدر من التشاؤم الذى حاول البعض الترويج له.
نحن نفعل فى قضايا الشأن العام مثلما تفعل جماهير الكرة مع ناديها المفضل، فالفرحة تكون عارمة عند الفوز، والغضب على المدرب واللاعبين والحكام والجهاز الإدارى يكون بلا حدود عند الهزيمة فى المباراة التالية. إنها أخلاق المتفرجين تسيطر علينا فى السياسة كما فى مباريات الكرة، فنحن فى الحالتين متفرجون لا نملك من الأمر شيئاً سوى صيحات التهليل مرة، وصرخات الاستهجان مرة أخرى.
المتفرجون ليس لهم أن يناقشوا أو يقترحوا أو يقلبوا الأمر على أوجهه بحثاً عن نتيجة أفضل، فهذا هو ما يفعله الشركاء فى القرار الذين لهم صوت ورأى مسموع، والذين تحدد قواعد محددة الطريقة المناسبة للتعبير عن رأيهم، والمكان والزمان الذى يمكنهم فيه القيام بذلك، والكيفية التى سيوزن بها الرأى فى مقابل غيره من الآراء، والقواعد التى سيتم اتباعها للتوصل إلى القرار النهائى. إذا غاب الشركاء ينفرد المتفرجون بالساحة، وتعلو صيحات الفرح وصرخات الاستهجان فوق أى رأى موضوعى أو تحليل واقعى.
المتفرجون ليس لهم رأى، فرأيهم لا يهم فى كل حال، وإذا تحمس بعضهم أكثر مما ينبغى لرأيه، خاصة إذا استخدم مصطلحات فنية دقيقة لصياغة رأيه، وإذا عبر عن هذا الرأى وهو جالس على المقهى مع أصدقائه، فإنه سرعان ما يتحول إلى مسخرة بين الناس، باعتباره ينتمى إلى فئة جنرالات المقاهى الذين يدّعون القدرة على التحدث فى كل شىء وأى شىء، فإذا كنت من جمهور المتفرجين فلا تحاول أن تقول كلاماً فيه ما يشبه العمق أو التعقيد، ولا تستخدم ألفاظاً متخصصة، وإلا تم تصنيفك ضمن الجنرالات إياهم.
جمهور المتفرجين ليسوا فئة، ولكنهم حالة، وهم كيان غامض يصعب تعريفه أو تحديد وظيفته أو أهميته، لدرجة أنه بالإمكان الاستغناء عنهم كلية، حتى إن مباريات الكرة فى بلادنا يتم لعبها دون متفرجين. لم يكن لغياب المتفرجين عن مباريات الكرة أى أثر، فالمباراة ما زالت تسعين دقيقة، وما زال الملعب بنفس أبعاده، وما زال الفريق الفائز يحصل على ثلاث نقاط، فيما لا يحصل الفريق المهزوم على أى شىء، وما زال للدورى بطل يتم الإعلان عنه فى نهاية الموسم. ولكن المؤكد أن الكرة فى غياب الجمهور ليس لها طعم، فنفر الناس فى بلادنا منها لمتابعة بطولات الكرة الأوروبية، حتى إن بعض التقارير تشير إلى أن نسبة كبيرة من ركاب زوارق الموت، التى تحمل الآلاف من الشاطئ الجنوبى للمتوسط نحو شاطئه الأوروبى، إنما يفعلون ذلك مدفوعين بالرغبة لمشاهدة مباريات الكرة فى الملاعب وليس على شاشات التليفزيون.
كثر المندسون من أصحاب الأجندات بين المتفرجين، فتم إلغاء بند الجمهور من ضمن الشروط الواجب توافرها فى مباريات الكرة، وبدلاً من أن يقوم المتفرجون بالذهاب بأنفسهم لمشاهدة مباريات الكرة فى الملاعب، فإنهم باتوا يتحلقون حول شاشات التلفاز، يشاهدون المباريات من الزاوية التى تختارها لهم كاميرات الإعلام. وبدلاً من أن يكون الجمهور رأيه فى أحداث المباراة مباشرة دون وسيط، اضطر جمهور المتفرجين للاعتماد على الإعلاميين فى استديوهاتهم التحليلية الطويلة والمملة، التى لا يشبهها فى الرتابة والمعارك الوهمية والملل الذى تسببه سوى برامج الكلام السياسية، أو ما يسمى التوك شو -أى استعراضات الكلام- وهى فعلاً كذلك، سواء دار الحديث فيها عن مباريات الكرة أم السياسة.
الجمهور يظل هو نفسه الجمهور، سواء تابع المباراة مباشرة من الملعب أم تابعها أمام شاشة التليفزيون. فى الحالتين تظل ردود فعل الجمهور محصورة بين القفز فى الهواء فرحاً والإحباط والحزن لدرجة الكمد. كل الفارق بين الحالتين هو أن ردود فعل الجمهور فى ملاعب الكرة تكون أكثر أصالة يكونها بنفسه، أو بمساعدة أصحاب الأجندات الكروية من روابط المشجعين وغيرهم، الذين هم فى كل الأحوال جزء من الجمهور حتى لو تميزوا عنه بتنظيمهم الخاص. أما أمام التلفاز فالناس يكونون ردود فعلهم وفقاً لما يقدمه لهم الإعلامى الجالس أمام الكاميرا، الذى هو أيضاً له أجندته الخاصة التى لا يصارح بها أحداً.
نعود من ملاعب الكرة إلى عالم السياسة لنجد الجمهور هو نفسه، كياناً كبيراً بلا ملامح محددة، عاجزاً عن التعبير عن نفسه بأى درجة مناسبة من العمق، مشاعره تسبق قدرته على تكوين الرأى المحدد والتفسير الدقيق، يحتاج دائماً إلى وسطاء -أو قيادات- يساعدونه على تكوين الرأى وتحديد الاتجاه، ليبقى السؤال قائماً عن نوعية الوسطاء/القيادات الذين ستتاح لهم الفرصة لصناعة مزاج الجمهور وتحديد اتجاهه، هل هى القيادات الطبيعية المنظمة فى أشكال مناسبة -الأحزاب مثلاً- التى يتم اختيارها بطريقة منضبطة -الانتخابات مثلاً، أم هم الوسطاء من الإعلاميين الذين لم ينتخبهم أحد، والذين يوجهون بورصة المشاعر والمزاج العام صعوداً وهبوطاً وفقاً لأجندات تقع خارج دائرة أى نظام للمحاسبة والمسئولية؟ هذا هو بعض من السياسة التى غابت عن حديث الرئيس.