إجازة وضع «الوطن» 2
قبل 5 أعوام، كتبت جزءاً يسيراً من رحلة صار لزاماً علىّ أن أستكمل روايتها، رغم أن فصولها ما زالت تحدث حتى كتابة هذه السطور، لكن يبدو أن قدرنا أن يكون «الوطن» هو مرادنا وهمنا، وأن يبقى عصياً على كل عدو أراده بسوء، سواء حمل السلاح واضحاً فى وجوهنا، أو مارس فساداً وضعه فى خانة الأعداء باقتدار.
أى وطن أقصد؟
كل ما يمثل لنا وطناً، ونرى فيه الوطن، ونسميه الوطن.
ولنبدأ الحكاية:
تحل الذكرى الثانية عشرة لانطلاق وتأسيس «الوطن»، احتفاء من كل حدب وصوب، شباب دخلوا «الوطن» قبل 12 عاماً، أصبحوا الآن كباراً، نجوم فى كل مجال، بعضهم استمر، وأكثرهم غادر إلى تجارب يحملها إلى بر النجاح، كل من مر بـ«الوطن» ناجح، وكل من تميَّز فى المهنة له فى «الوطن» ذكرى، بدأت التجربة بسعى دؤوب وطموح جارف نحو تغيير صحفى وبصمة تُنسب لأصحابها، وبعد 12 عاماً أصبحت التجربة مدرسة، وأصبح الشباب أساتذة، وصار لها مريدون، سجل إنجازات، وهامش إخفاقات، يرفع «الوطن» رأسه بالإنجازات، وتظل الإخفاقات سُلَّماً نتعلم عليه أن الفشل وراءه نجاح، وأن الخطأ فى العمل إذا لم يقترن بالغرض صار سُنة الحياة التى نتعلم منها قبل أن نلعنها.
احتفى الجميع بـ«الوطن»، سدد أبناء الأصول جميل المكان وفضله على الجميع، من وقف فى رحابه، ومن غادره إلى غيره، فيما انصرف بعضهم إلى النقد، ونحن بين الاثنين مدينون للجميع، من قرأنا وشكر، ومن قرأنا وضجر، كلاهما كوَّن ملامح التجربة الأهم فى السنوات الأخيرة، خاصة أنها حملت على عاتقها حُلم الخلاص من قبضة التنظيم الإرهابى، وحُلم الوصول إلى الجمهورية الجديدة، ليظل «30 يونيو» من كل عام ليس احتفاء بذكرى ثورة الخلاص، قدر ما هو احتفاء بدور «الوطن» فى خلاص الوطن.
«فلاش باك لا بد منه»
أيام قليلة وتقترب الذكرى الأولى لثورة يناير، استعدادات فى كل اتجاه، ومخاوف من تكرار أحداث يناير فى ذكراها الأولى، وطن أكبر يشتاق لرائحة الاستقرار على وضع ولو لشهر واحد، ووطن آخر أصغر يأخذ خطواته نحو التشكيل، وكيان اكتمل فى رحمى وآن أوان خروجه للحياة، هكذا كان حلمى يسير فى مسارات ثلاثة؛ حلم التجربة الأولى كأم، والتجربة الثانية فى إصدار صحفى جديد، وتجربة العمل فى مناخ سياسى مضطرب.. أتذكر جلسات التأسيس مع الأساتذة والزملاء، لماذا استقر الاسم على «الوطن»، لم يختلف اثنان عليه، وسط مقترحات عدة، ربما كان للكلمة وقع السحر فى قلوبنا، لكل منا وطن، وكل منا وطن لغيره.
18 يناير 2012 وضعت طفلى، وبعدها بأسبوع خرجت لتغطية ذكرى الثورة لصحيفتى التى تربيت وتعلمت فيها، نهرونى وقتها على التضحية بصحتى وصغيرى والخروج بجرحى للعمل، ختمت رحلتى مع صحيفتى بالعمل حتى آخر لحظة، وبدلاً من أحصل على إجازة وضع «يزيد»، غادرت صحيفتى إلى إجازة وضع «الوطن»، كلاهما كان صغيرى، كلاهما له علىّ الحق نفسه، وكلاهما غد ومستقبل يفتح ذراعيه لى، كلاهما حلم، وشاءت إرادة الله أن يتحققا معاً.
مع التأسيس تنازعت المشاعر، أم تترك صغيرها الذى لم يُكمل شهره الأول وتخرج لتُجرى لقاءات عمل وتشكل فريقاً وتحضر اجتماعات تأسيس ووضع للأطر الأساسية للصحيفة، بعين أكثر نضجاً، وعقل أكثر وعياً من شغف البدايات.. «أم جاحدة ومفترية سابت ضناها» أم «صحفية عندها حلم»، أم كلاهما معاً، كل شىء يصلح فى الوصف والتسمية، ولولا أبوان قررا أن يكونا الداعم الرئيسى وراء حلم ابنتهما، لما كان الحلم وما كنا لنملك ذكرى حتى نرويها، و«الفاتحة» هنا لروحيهما سداداً لدين لا سداد له.
يزيد «الوطن» والوطن «يزيد».. كبر الصغيران، حلمى المهنى أصبح مؤسسة، وصغيرى دق على أبواب الرجولة، عوّضتنى أمومتى لبعض الطلبة والشباب الذين صاروا أساتذة فى المهنة عن الأمومة الطبيعية التى تركتها لأمى، حتى صار صغيرى يزيد فى حكم شقيقى، وحتى غادرتنى أمى، لا أنسى أننى كنت أدعو له «ربنا يبارك فيك يا يزيد يا بن آمال» فى حين أن آمال أمى أنا وليست أمه هو.
فى كل عام ونحن نحتفل بعام جديد فى «الوطن»، تفقد الصورة أحد عناصرها، أتذكر من غادرونا بإرادة الله وقدره وساعاته الموزعة بحساب إلهى دقيق، أتذكر من غادرونا بإرادة النجاح، لكن ودهم ودعمهم وكلماتهم الطيبة وقود يضمن استمرارنا، أتذكر من غادرنا لأن الوطن لا يستقيم مظلة إلا لمن آمن به وأحبه وأخلص له، من كان له ولاء آخر فليبحث عنه خارج «الوطن».. أتذكّر أن يوماً جاء علينا جميعاً، وقفنا فى وجه من هددنا بالسلاح، نظرنا فى عينيه ونحن نواجهه عزلاً، يهددنا بالحرق والقتل، فنقول له سنُدفن تحت عتبة قلعتنا، لم يرهبنا أبوإسماعيل ولا رجاله وشيوخه وفتاويه، لم نتذكر ونحن نواجهه سوى أن الموت حق، فإذا حان وجب أن يكون بشرف وكرامة وفى سبيل «الوطن» والهدف والمبدأ، وأن من يترك أرضه يبيع عرضه ويفرط فى كل شرف.
يمر اليوم علىَّ صعباً، فيه أتذكر الجميع، كل من مر هنا وترك أثراً، إيجابياً كان أو سلبياً.. أعاود شكرهم جميعاً، لقد أضفتم لى الكثير، وأصبحت أكثر وضوحاً والتزاماً بمهنة تفقد الكثير، هنا تعلمت أن البناء وحده ليس إنجازاً.. كنا نبنى «الوطن»، فى حين أن الوطن الأم ينهار، إذاً ما قيمة أن تبنى حجرتك فى منزل آيل للسقوط؟ هكذا آمنت وأغلب الزملاء أن جزءاً أكبر من بنائنا مرتبط بالبناء الأم، بالوطن الأكبر مصر، وبالمهنة التى كادت أن تتغير معالمها وتقاليدها.
- قائمة الشكر تتسع، تكاد تلتهم الصحيفة إذا ما قررت أن أترجمها لأسماء، وهناك من تعجز الكلمات عن شكرهم، لهم فى القلب مساحة وتأثير يعلمونه جيداً، هم الأساتذة والآباء الأولون، أدين لهم بالفضل، تعلمت قيماً ومثلاً كثيرة على يد أبى رحمة الله عليه، لكننى مارستها حين رأيتهم عليها، سأقولها إلى أن تصعد الروح، أشهد الله أن لى أباً فى التربية وأباً فى القيم، وبينهما أسبح فى فيض من نعم، أولها نعمة رد الفضل لأصحابه، ويوماً ما سأقف على عتبة مذكرات، أمنح فيها لأستاذى الغالى جزءاً من قدره لدىّ.. وإلى أن يحدث، اسمحوا لى أن أشكر أصحاب الفضل فى كل ما وصلنا إليه.. شكراً قراء «الوطن».