الأذان السادس وأجراس الضمير في جامعات أمريكا
لا يؤذَّن للصلاة المكتوبة سوى خمس مرات يومياً، كما لا تقرع الأجراس سوى أيام الآحاد وفى الأعياد.. هكذا جرت العادة واقتضت فروض العبادة فى بلادنا، وكلاهما يأتيانك سماعاً حين يطلقهما مَن أذَّن أو مَن قرع الجرس.. غير أن الأذان السادس والجرس المدوى اللذين انطلقا فى بلاد العم سام وغيرها من الدول حول العالم انطلقا من ضمائر تنبض بالحياة وتغرقها بالإنسانية، تعى ووعيها يهز الكون حين تنطلق الحناجر منادية بالحرية لفلسطين ووقف فورى للقتال قى غزة.
لم تعرف الشعوب المتحضرة الصمت على الحق حين تدركه أبصارها، كما لم نعرف نحن التضامن مع غيرنا من شعوب الأرض، هم يدركون معنى استمرار الإبادة على يد نظام عنصرى يحظى بالدعم المطلق من حكومات بلادهم ويعلمون أنه يهدم الصورة الذهنية لهم وللأجيال القادمة ويحولهم إلى شركاء فى «جريمة القرن» ولو بمجرد الصمت وهو ما يأبونه على أنفسهم ويرفضون المشاركة فيه.
نحن أمام جيل مختلف يحمل بشارات التغيير الحتمى فى العالم ويتمتع بالقدرة على الحكم على الأمور بتجرد ودون انحياز، والأهم أنهم لا يتأثرون بآليات الدعاية الموجهة ويعتمدون على أنفسهم فى متابعة ما يجرى فى العالم وتحديد صاحب الحق من المغتصب.. المجرم من الضحية.
هذا جيل مذهل يتشارك فيه كل أصحاب الرأى ويتوافقون طبقاً للقيم الإنسانية والحضارية والموروث القيمى للبشرية منذ بدء الخليقة، بلا انحيازات مطلقة وفقاً للشراكة فى الدين أو العرق، كما أنهم لا يخشون مواجهة حكومات وهيئات نيابية منحازة لغير الحق بل ومتجنيه ومتغاضية عن جرائم حرب ترتكب ضد الإنسانية بل ويتمادون فى تجاهل ناخبيهم ويحاولون مصادرة حقوقهم فى التعبير عن الرأى.
طلاب الجامعات فى أرجاء المعمورة يقودون حراكاً سيغير وجه العالم، من كل الجنسيات والأديان يساندهم عدد لا بأس به من أساتذتهم.. جميعهم لا يرضيهم مسارات حكوماتهم ومؤسساتهم التعليمية الراقية التى تورطت عبر السنين فى مذابح ومقابر جماعية لم يسبق لها مثيل عبر تاريخ البشر، يرفضون وبإصرار أن يكون حضورهم صامتاً عاجزاً عن وقف سيل الدماء وقتل الأطفال والنساء، يواصلون الضغط بكل أشكال التعبير المتاحة عن الوجه الحقيقى للإنسانية وإن أبى أهل الحكم والسياسة الذين لا يرون سوى حتمية الاستمرار فى مناصبهم التى يدينون بها لجماعات الضغط الصهيونى.
اليهود المناهضون للصهيونية كانوا حاضرين وبقوة فى مشهد يؤكد أننا بصدد قضية إجماع يعاد بموجبها تشكيل محددات الحراك الشعبى ومصادر إلهامه المنطلقة من مجمل التجارب الإنسانية تعيد اختبار مدى قدرة مجتمع النخبة على التأثير فى قرارات الدولة الأقوى فى العالم وكل الحلفاء فى أوروبا مركز الغنى والتحضر.
صحيح أن الاحتجاجات على الحرب الفيتنامية كانت هى الأقوى والأكثر تأثيراً فى ستينات القرن الماضى إلا أن التاريخ يسجل عشرات الوقائع التى كان للاحتجاجات الطلابية الأثر الأكبر فيها سواء فى نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية أو مجمل التوجهات السياسية من قضايا بعينها.
هذه المرة أجّج استدعاء الشرطة فى جامعة كولومبيا المظاهرات ووسّع من نطاق المواجهات ولم يمر الأمر بعد اعتقال المئات ولم يفلح الخطاب المتعلق بمعاداة السامية فى ردع الطلبة الذين سيقودون الولايات المتحدة مستقبلاً ولعلها المرة الأولى التى تحظى فيه قضية بمثل هذا الإجماع الذى تشهده معظم الجامعات هناك فى ظل تمثيل كل قطاعات المجتمع الأمريكى.
المبالغة فى توقع النتائج لهذا الحراك غير قائمة فى ظل الإصرار الإسرائيلى على اجتياح رفح والمماطلة فى مواجهة كل محاولات الوصول إلى اتفاق هدنة وعدم الاستجابة لأى ضغوط بحكم الدوافع الإنسانية أو حتى المال الأمريكى السخى الذى يمول العدوان ويؤرق ضمائر كثيرة فى أوساط المحتجين بخلاف من يرون أنهم أولى بأموالهم من المتطرفين فى إسرائيل.
المسئولية أمام الأجيال القادمة هى الفكرة السائدة لدى هؤلاء المحتجين والتى امتدت لتشمل جامعات أخرى فى كل أنحاء العالم ولعل الفائدة الكبرى تتركز فى وصول صورة مغايرة للعرب والمسلمين قد تقضى على الإسلاموفوبيا التى سادت طويلاً، والمؤسف أن يحدث ذلك دون أن يكون لنا دور يذكر فى صناعة هذا الوعى والذى لا يزال دور وسائل الإعلام العربية فيه شبه منعدم.. هو انتصار مجانى صنعته الصدفة والضمير الإنسانى ووعى من يرتادون دور العلم ويخشون ما سيكتبه التاريخ عنهم.