م الآخر| زوجات للتصدير (1) "قصة قصيرة"

كتب: د. أسماء عايـد

م الآخر| زوجات للتصدير (1) "قصة قصيرة"

م الآخر| زوجات للتصدير (1) "قصة قصيرة"

في ساعة متأخرة من الليل، تجري وحدها وهي تبكي حد الانهيار وثيابها مُمزقة. لا تزيد سنوات عمرها عن الثالثة عشر-هكذا تبدو- فلم تودّع بعد مرحلة الطفولة حتى إن علامات البلوغ لم تكن ظاهرة بعد في جسدها النحيل وملامحها البريئة. تستغيث بأول حانة تجدها مفتوحًة، تدخل إليها، لا تعرف ماذا تقول! فهي لا تتحدّث لغة هذا البلد ولا أي لغة أجنبية أخرى. من مظهرها يفهم صاحب الحانة أن ثمّة مكروهًا قد حدث لها.. فيتصل بالشرطة على الفور.. تصل الشرطة وتصطحبها معها إلى القسم ثم تستدعي مُترجمة، من ضمن المترجمين العرب المعتمدين لديهم. إلى أن تصل المترجمة تجلس "أحلام" أمام الضابط لكنها لا تراه ولا ترى أي شىء سوى الذي يدور في رأسها من أحداث مُتسلسلة أدّت بها إلى هذه الليلة. كانت البداية في قرية "ميت الكرمة"، التابعة لمحافظة الدقهلية، تعود بذاكرتها إلى شهور قليلة مضت وتحديدًا في اليوم النهائي لامتحانات الشهادة الإعدادية حينما عادت من المدرسة إلى بيتها القروي البسيط وهي فرحة بعد أن أدّت ما عليها ومُستبشرة خيرًا بأن مجموعها سيسمح لها بالالتحاق بالثانوية العامة ومن بعد الحياة الجامعية.. لكن أمها تستقبلها قائلة: كفاية علام لحد كدا يا ضنايا، أنتِ من النهارده تقعدي في الدار جنب أختك الكبيرة لحد ما ييجي عدلكوا. تثور "أحلام"، فتقترب منها أختها الكبيرة لتهمس في أذنيها قائلة: - لا فائدة من الغضب والثورة! أنسيتِ ما فعلاه معي؟! إنهما على قناعة تامة بأن ذلك في مصلحتنا ولن يرضيا بغير ذلك سبيلاً! تمر أيام ويطرق بابهم "إسماعيل راضي"، أحد أهالي القرية، ليلتقي بــ"عم مرزوق" فيُرحِّب به "عم مرزوق" ويجلسا معًا قرابة نصف ساعة ثم ينصرف "إسماعيل" فتقترب "أم زينب" من زوجها سائلة عن سبب زيارة "الشيخ إسماعيل"؟ فأجابها: -مُفاجأة حلوة أوي يا أم البنات.. ياما أنت كريم يارب! الشيخ إسماعيل له واحد قريبه في إيطاليا يجي من 10 سنين.. وقاللي إنه شاب عنده 33 سنة إنما إيه؟ طول بعرض ومليان فلوس من شغله في بلاد برا طبعًا.. وقاللي كمان إن الجمعة اللي فاتت بعتله توكيل إن يشوف له عروسة حلوة وبنت حلال.. ويعمل الأوراق وبعدين يبعتله العروسة على إيطاليا لأن ظروفه ماتسمحش إنه ييجي مصر الفترة دي! والشيخ إسماعيل الله يباركله فكّر فينا أول ناس.. وجه يطلب إيد واحدة من بناتنا. -إنتِ إيه رأيك يا "أم زينب"؟ ندّيله "أحلام" ولاّ "زينب"؟ الزوجة "في فزع": -يا عيب الشوم! ودي عايزة ماشورة.. طبعًا "زينب".. ولا انت عايز الناس تاكل وشنا لو جوّزنا الصغيرة قبل البت البكرية. الزوج في استنكار يُغلّفه غضب: - والله لما الناس تاكل وشنا أحسن لما نبعتله واحدة ماتعجبهوش فيطلقها ونرجع نصرف عليها من تاني.. ودا راجل عايش برا وبيشوف بنات من كل صنف ولون.. وانتِ عارفة إن "أحلام" أجمل من "زينب" بكتير. في غضون أيام يكون قد تم عقد القران دون أن يعرف أي منهما الآخر دون حتى أن يرى أي منهما صورة فوتوغرافية بأي وسيلة من وسائل الاتصالات التي أتاحها لنا العصر الحديث. وبعد مرور شهور من إتمام تحضير أوراق الإقامة في إيطاليا.. يحجز لها الشيخ تذكرة الطيران إلى إيطاليا لتلتحق بزوجها. تفيق الفتاة من ذكرياتها على صوت الضابط وهو يستقبل المترجمة المصرية "ناهد فكري"؛ فتهرول الفتاة نحوها، ترتمي بين أحضانها وتبكي كما لو أنها طفلة رضيعة! وما أن تهدأ إلا وتسألها المترجمة في لطفٍ وحنان: -أخبريني ماذا حدث لكِ؟! فتُجيبها "أحلام": -لقد وصلت صباح اليوم إلى المطار قادمة من مصر بعد أن ودّعني أبي وقد أخبرني مُسبقًا أنه بمجرد وصولي إلى مطار "ميلانو" سأجد رجلاً في انتظاري وستكون في يديه يافطة مكتوبًا عليها اسمي كي يُمكنني التعرّف عليه ويُمكنه التعرّف عليّ هو الآخر. فتسألها المترجمة في استغراب: -ومَنْ هو ذلك الرجل الذي يَأمن والدك أن يُسلّمك له؟! فأجابت "أحلام" في براءة ولا مُبالاة: -إنه زوجي "مجاهد"! وقد تزوّجني بتوكيل كان قد أرسله لأحد أقاربه بمصر! -وماذا تم بعد وصولك إلى إيطاليا؟ -اصطحبني من المطار إلى المنزل ثم أراني ما أعدّه لي، وما اشتراه من ملابس وطعام، وكنت فرحة لأنني أصبحت في قطعة من أوروبا التي يتحدّثون عنها بالتلفاز ولأنني أصبح لدي ملابس جديدة وبيتٌ لي وحدي.. لكن فجأة وبدون مُقدمات وجدته يقترب مني فحاولت الإفلات منه لكنه جذبني نحوه وبعنف فعل بي ما فعل! وما أن هدأ عنفه إلا وجريت فورًا نحو باب الشقة.. فتحته وجريت.. هربت من وحشيته، واعتدائه عليّ، ظللت أجري بكل ما أوتيت من سرعة إلى أن وجدت أحد المحال المفتوحة فدخلتها واستنجدت بهم قبل أن يلحق بي. فرمقتها المترجمة بكآبة ولم تنبس، فأردفت "أحلام" بضراعة نافذة: - والنبي ساعديني في ألاَّ أعود إليه! امتد الصمت لثوانٍ فعادت تقول في توسّل: - لا أعرفه ولا يعرفني وقد كان حُلمي أن أستكمل دراستي غير أن أسرتي قامت بتزويجي قسرًا ولم يكن أمامي خيار آخر سوى التصديق على رأيهم خاصة بعد أن أقنعني الشيخ "إسماعيل" أن الأهم -من الناحية الشرعية- هو قبول أهلي بالزوج وليس قبولي ورضاي أنا! كما أنني قلت في أعماقي: ربما يكون سفري إلى أوروبا سبيلي للعلم والحرية والمال الذي يحلم به الغلابة أمثالنا. فنظرت إليها المترجمة نظرة حانية وقالت بصوتٍ هادئ كنور القمر: - اطمئني يا "أحلام"، سأكون دائمًا إلى جوارك، لكن من الضروري أيضًا الاستماع إلى أقوال زوجك ومعرفة دوافعه ربما يكون مظلومًا هو الآخر. فرفع الضابط رأسه نحو السقف كأنما يتسلّى بتأمله ثم أعاد رأسه إلى المترجمة قائلاً: - الآن.. أخبرينا ماذا حدث لها؟ ومن تكون هذه الفتاة؟ فغاص قلبها في أعماقها وقالت سأروي لكم كل ما قالته، وبالفعل.. قصَّت عليهم قصة الفتاة بكل دقة. فما كان من الضابط إلا تمتم بإشفاق: -أتُحرم فتاة صغيرة كهذه من الدراسة ثم تُزوّج بكيفية لا إنسانية ودون حتى أن يُعلّمها أهلها طبيعة العلاقة الحميمة؟! فقالت المترجمة بــنبرة الربابة الحزينة: - أتفق معك في كون الزواج المبكر جريمة، لا سيما إن كان قسرًا، وتزداد بشاعة الجريمة بالعنف الذي حول العلاقة من علاقة حميمة إلى اعتداء كما هو في حالة "أحلام"، لكن دعني أوضّح لك أن مثل هذه التصرفات ليست سمة من سمات شعب مصر وإنما تنتشر فقط ببعض المناطق الريفية والبدوية نتيجة نقص التوعية. فتساءل الضابط بحدّة: - وربما هو دين الإسلام الذي يُبيح بعض هذه الأمور التي تظلم المرأة وتقضي على مستقبلها؟! بل ويسمح بأن يتزوّج اثنان دون أن يرى بعضهما البعض! فرمقته المترجمة بنظرة خاطفة، كما لو أنها تتساءل عمّا وراء مقصده الظاهر بتشويه صورة الإسلام، وقالت: - الإسلام أباح حرية الاختيار ولا إجبار في الزواج الإسلامي الصحيح، علاوة على أنه من شروط الزواج أن يرى كل من الطرفين الآخر. كما أن الإسلام دين يحث على حب العلم والدراسة حتى أن أول كلمة نزلت في كتابنا المقدّس "القرآن" هي "اقرأ". أما ما حدث مع "أحلام" فهي إحدى الحالات الاستثنائية المتعلقة بالأفراد وليس بجماعات أو مُجتمع أو دين بعينه. فسكت مليًا ثم أردف وهو يزفر من الأعماق: - لقد فهمت الآن.. على أية حال، سنقوم باستدعاء زوجها لأخذ أقواله في المحضر.. لكن اسأليها ماذا تريد؟ فبادرته قائلة: - هل هناك اختيارات مُحدّدة تودّ أن أطرحها عليها؟ فقال جادًّا: - لو أرادت العودة إلى أسرتها في مصر فنحن على استعداد لتسفيرها إلى مصر، أما إذا أرادت البقاء في إيطاليا، فإما أن تعود لزوجها بعد أخذ تعهد عليه بعدم التعرّض لها، أو نقوم بإدخالها إحدى دور الرعاية المتخصصة "ملجأ الصغار دون سن الثامنة عشر". وقامت المترجمة بعرض الخيارات المُتاحة على "أحلام"، فأجابت وهي تسترد شيئًا من الطمأنينة لأول مرة: - أريد البقاء هنا في إيطاليا داخل أي مكان لا يطأه "مجاهد " بعد أن يكتب تعهدًا على نفسه بعدم التعرّض لي في حال رآني مُصادفة في أي مكان وفي أي وقت. فقاطعتها المترجمة بوجهٍ لا يَنمُ عن السرور: - ولم لا تعودين إلى مصر؟! خاصة أن قانون الملجأ يسمح بالبقاء داخله فقط حتى سن الثامنة عشر، بعدها لن تجدين من يرعاكِ يا بنيتي. فوثبت "أحلام" واقفة وهي تقول بظفر: - هذا قراري وليكن ما يكن!