حدوتة مصرية

حدوتة مصرية
في 24 يناير 2011.. كان "محمود" يحتفل بعيد ميلاده الخامس والعشرين.. في المساء أطفأ شمعة واحدة مع أسرته البسيطة.. أمسكت والدته المريضة بـ"الفشل الكلوي" الشمعة بيد مرتعشة. واقتربت منه وربتت على كتفه، قائلة: "كل سنة وانت طيب يا ابني.. معلش مفيش تورتة.. العين بصيرة والإيد قصيرة".. نفخ "محمود" بغضب مكتوم، فانطفأت الشمعة، قبل أن يطبع "قبلة" على جبين أمه الموجوعة،
في صباح اليوم التالي.. كان "محمود" في ميدان التحرير.. الولد لم يعد قادرا على "قمع غضبه".. بالأمس بدأ عامه السادس والعشرين.. تخرج في كلية "العلوم" لينضم إلى شقيقه "كمال" وشقيقته "داليا" في "طابور العاطلين".. مات والدهم كمدًا بعد "تسريحه" من عمله في مصنع "كبير" باعته "حكومة نظيف" لرجل أعمال "أكبر".. وبات على "محمود" وشقيقه "كمال" أن يحملا "البيت" من بعده.. ولكن لا "شهادة العلوم" التي يحملها "محمود" ولا شهادة "التجارة" التي مزقها "كمال" لها ثمن في سوق العمل.. أما "الأم" فقد اعتادت أن تغلق على نفسها غرفتها لتبكي وتصرخ من آلام "الكلى".. فلا هي تريد أن تمزق أبناءها بـ"مرضها".. ولا هي تجد مكانا في وحدات "الغسيل الكلوي": الفقراء في مصر يموتون دون ضجيج!.
صرخ "محمود" في "التحرير" وكأنه صوت "أمه وشقيقه وأصدقائه وجيرانه.. صرخ وكأنه "ينعي والده" في قبره.. أما "كمال" فجلس يتابع ما يحدث على شاشات التلفزيون.. "كمال" غير "محمود".. فهو يؤمن أن مصر لن تتغير "شيلوا مبارك.. وحطوا أي واحد.. مفيش فايدة".. كان "محمود" يغضب من "يأس كمال".. وكان "كمال" يسخر من "سذاجة محمود".. وكانت الأم تفصل بينهما دائمًا حين يشتد الصراع.. "كمال" لـ"محمود": يا عبيط.. هتنزلوا الميدان وهتموتوا.. وفي الآخر هتلبسوا الخازوق..! و"محمود" لـ"كمال": أموت.. أموت.. بس بلدي تعيش.. وبكرة الفجر هيطلع!.
رحل "مبارك" ودخل السجن.. فأخرج "محمود" لسانه لـ"كمال".. جاء المجلس العسكري للحكم الانتقالي فأخرج "كمال" لسانه لـ"محمود".. سلم المجلس العسكري كرسي الرئاسة لـ"الإخوان".. فرقص "كمال" في البيت.. وأخرج لسانه، ومشى على الحيطة شماتة في الثائر "محمود": البس يا معلم.. عملتم ثورة خدها الغراب وطار!.
كان "محمود" يتمزق وهو يرى مصر تتقزم لتصبح على مقاس الحكام الجدد.. كان الولد يرتمي في حضن أمه العليلة، ويبكي حتى يبتل "جلبابها المهلهل".. وحين تنضب دموعه وتعصر الأم "جلبابها" يروي لها ما كان في "التحرير" من أحلام وصيحات ودماء.. وكانت "الأم" تغرس نفس العبارة في قلبه المرتجف: بكرة يا ابني.. الفجر هيطلع!، غير أن فجر "محمود" وملايين مثله لم يطلع!، ففي كل صباح.. كان الولد يفتح الشباك، فيجد الظلام ذاته، وكأن "الشمس" لا تسطع على جبينه.. ورغم الأسى في الأعماق.. انطفاء لمعة العين.. كان "محمود" لا يزال يحلم بذاك الفجر.. وكان "كمال" يحلم مثله.. غير أن الأخير كان يقول دائما: الثورة الحقيقية لم تأت بعد!.
وضع "محمود" خيبته على خيبة "كمال" وحاولا أن يقنعا نفسيهما أن شيئًا ما تغير في مصر.. بحثا عن عمل فلم يجدا.. فركب الأول "توك توك" في الحي الشعبي الذي يقطنانه.. وعمل الآخر مندوبًا لمبيعات "منظفات صناعية رديئة".. ليس مهمًا أن تعرفوا من منهما عمل سائقًا لـ"التوك توك".. ومن يلف الشوارع والبيوت لبيع المنظفات.. الأم وحدها تعرف حين تنكفىء على الغسالة القديمة لتغسل ملابسهما: رائحة "شقا التوك توك" غير "عرق اللف ع البيوت".. لم تكن الأم بحاجة إلى المياه المقطوعة دائمًا "دموعها تكفي لشطف الهدوم"!.
رحل "مبارك".. وجاء المجلس العسكري.. قفز "مرسي" على "الكرسي" واستربع.. وبات واضحًا أن "مصر في خطر".. وقف "محمود" من جديد في الميدان مع "تمرد".. الولد لم يفقد الأمل بعد.. حمل الاستمارات في قلبه وحصد آلاف التوقيعات.. وذات ظهيرة، كان يمر في أحد شوارع حدائق القبة.. لمح شقيقه "كمال" على الجانب الآخر من الشارع.. كان الولد الآخر واقفًا وسط أسرة بسيطة، وبدا وكأنه يحاول إقناعهم بأمر ما.. هرول إليه، فوجد تحت إبطه عشرات الاستمارات: لا أصدق.. "كمال" مع "تمرد"؟!.. هكذا صرخ "محمود".. أما "كمال" فقد راوح بين الدهشة والذهول والصدمة: لماذا يا ربي وضعت "محمود" في طريقي؟!.. كان حضنا حميما بين الاثنين.. وكانت العبارة التي قالها "كمال" ولم ينسها "محمود" يمكن يا "محمود" الفجر يطلع المرة دي!.
نزل الاثنان في "30 يونيو" إلى ميدان التحرير.. "محمود" خبير بـ"الميدان وأركانه وترابه".. و"كمال" يتدثر بأخيه ورفاق الغضب، والهتاف يهز أرجاء مصر.. كان الاثنان يؤمنان أن "الإخوان ذاهبون".. غير أن "كمال" اقترب من "محمود" وسط صخب "التحرير" وهمس في أذنه: تفتكر مين اللي جاي المرة دي!.. نزل السؤال كالصاعقة على "محمود" وتسمرت عيناه، وكأنه يسترجع مشاهد "التحرير في 25 يناير".. فكر ألا يجيب، ولكن صمته سيصدم أخاه حديث العهد بالثورة والهتاف.. فنظر إليه وقال: يمكن يا "كمال" الفجر يطلع المرة دي!.. فصمت "كمال" وتذكر عبارته في "حدائق القبة".. ولكن شيئًا من الخوف كان يسكنه من الداخل!.
رحل "الإخوان".. وجاء عدلي منصور: رجل طيب.. حكيم.. مؤدب.. هكذا كان يصفه "محمود".. "لكن الرئيس الحقيقي لم يظهر بعد".. هكذا كان يقول "كمال".. والأهم أن الاثنين لم يتغير شىء في حياتهما.. ولا حتى في مرض الأم الذي كان يستفحل كلما ذهبت لـ"غسل الكلى" في مستشفى حكومي يلخص حال مصر كلها.. ولأن القدر شاء أن يربط الاثنين بـ"أحزان الوطن".. ماتت الأم وهي تحتضنهما معًا، بينما ارتمت المسكينة "داليا" تحت قدميها.. ماتت "الأم" فانكشف غطاء الرحمة عن البيت.. وبات على الثلاثة أن يواجهوا الحياة دون ذراع "الأب" وقلب "الأم"!.
رحل "عدلي منصور" بسلام وتقدير.. وجاء عبدالفتاح السيسي.. الاثنان يعشقان الرجل.. وإن كان حب "محمود" مشروطًا ببزوغ فجر جديد.. أما "كمال" فكان يراه خيارًا وحيدًا وضروريًا دون بدائل "رجل مخلص ووضع رأسه فوق كفه.. وربنا يعينه".. "داليا" لم تتزوج لأنها لا تعمل.. فكيف سيراها "العرسان".. و"محمود" و"كمال" لا يزالان يعملان: واحد سائق "توك توك" بالوردية.. والثاني مندوب مبيعات منظفات صناعية.. انتقل سرهما إلى "داليا".. البنت باتت تعرف من فيهما يسوق على "التوك توك" ومن يلف بـ"المنظفات".. غير أنها تغسل ملابسهما بالمياه وليس الدموع.. لا تريد "داليا" أن يكسو الحزن والدموع وجهها مثل أمها!.
رحل الأب على "نعش الخصخصة".. ورحلت الأم بشهادة وفاة من "وحدة الغسيل الكلوي بمستشفى حكومي".. ورحلت "البَرَكة" عن البيت.. فما كان يكفي الخمسة لم يعد يسد رمق الثلاثة.. في البيت أربع صور كبيرة معلقة على الجدران المزدحمة بـ"الشروخ": الأولى للأب في ريعان شبابه.. والثانية لـ"الأم" في ذروة صباها.. والثالثة لـ"ميدان التحرير" في إحدى الثورتين "25 يناير أو 30 يونيو".. لا أحد يعرف سوى "محمود".. والرابعة للرئيس "السيسي".. وفي كل صباح يفتح "محمود وكمال وداليا" الشبابيك لعل الفجر يطلع فيملأ الجدران.. غير أن ضوء الشمس لا يسطع على كافة الجدران.. فقط خيط رفيع من الضوء يتسلل، فيستقر على "صورة السيسي".. في البدء فرح الأشقاء الثلاثة.. ولكنهم فيما بعد، لم يعد بمقدورهم تفسير الظاهرة الجديدة: شعاع الضوء يخفت يومًا بعد يوم.. أما الصورة فتتكاثر حولها الشروخ ويزداد اتساعها!.
..ولكن الأهم أن شيئًا لم يتغير في حياة الثلاثة!.
..من أجل "محمود وكمال وداليا" وملايين غيرهم.. كان هذا العدد الخاص.. لعله يفسر لهم تلك الظاهرة الجديدة!.