"الوطن" تنفرد بنشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي "حلقة 1"

"الوطن" تنفرد بنشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي "حلقة 1"
بدأت تصنيع الألوان عام 1966.. ودعوت الله أن يرزقنى 100 ألف جنيه ومحل «البرنسيس»
أنهيت الخدمة العسكرية عام 58.. وعدت إلى شركة النصر لكننى شعرت بأن الوظيفة الثابتة لن تحقق طموحاتى
أمى كانت فخورة بى لحفظى القرآن.. وتعودنا أن نتناول الطعام معاً فى منزلنا بالعباسية
افتتحت أول محل باسم «العربى» عام 1964.. وشعرت بسعادة وأنا أبيع الشىء بأكثر من سعره
مبدؤنا الثابت فى العمل أن نصنّع ما نعرف كيف نبيعه.. وبدأنا بتصنيع «ألوان الزيت» لطلبة المدارس
«الأخوان عباس» ساعدانى أنا وصديقى «عنتر» على تحقيق حلمنا فى إنشاء شركة تجارية خاصة
عشت سنوات عمرى أنتظر الحفل الشهرى لـ«أم كلثوم» فى الراديو.. وتمنيت كثيراً لو امتلكت ثمن التذكرة
ولد رجل الصناعة محمود العربى فى يوم 15 أبريل 1932، فى قرية مصرية صغيرة تسمى «أبورقبة»، تبعد القرية سبعة كيلومترات عن مركز أشمون بمحافظة المنوفية، انتقل إلى العيش فى القاهرة، ولم يكن يتجاوز عمره 10 سنوات.
طفل صغير، قليل الخبرات، متعثر الخطى، يمتلك حلماً براقاً كالكنز الخفى المخبوء، يعرف صاحبه يقيناً أنه بالغه، ولكنه لا يعرف أى شىء عن معالم الطريق الذى سيوصله إليه.
كنت فى العاشرة من العمر، تتأرجح مشاعرى المتوترة بين الأمل والحيرة، بين السعادة، والخوف، بين الاستقرار والتشتت، لقد تركت أسرتى البسيطة لأول مرة، حتى أذهب للعمل فى القاهرة الصاخبة، لعلى أتحصل من عملى ذاك على ما يجعل الحياة أجمل وأيسر لى ولأسرتى الصغيرة المتكاتفة المتحابة، وأنا فى العاشرة فقط من عمرى.
فإذا سبقنا الأحداث، وألقينا نظرة على ما جرى لذاك الطفل بعد سنوات وسنوات، سنراه يرجع لنفس المكان، قرية «أبورقبة»، تاجراً مرموقاً، بل رئيساً لاتحاد غرف تجارة مصر، ورجل صناعة محترفاً، يجوب العالم بأسره، بحثاً عن أحدث صيحات التكنولوجيا ليأتى بها إلى مصانع «العربى» العديدة، التى قدر الله تعالى أن يكون موقع إنشائها ليس ببعيد عن مسقط رأسه بالقرية، ولكن، لم تكن تلك النقلة الواسعة ببعيدة عن ملكات ومواهب هذا الصغير، الذى أثبت مهارة وتفوقاً فى أمور التجارة والبيع، منذ كان عمره خمس سنوات.
أولى الخطوات
كنا فى شهر رمضان، وكنت قد جاوزت الخامسة بقليل، حين فاجأتنى رغبة شديدة أن أسعى لكسب رزقى كما يفعل إخوتى أحمد وعلى جويدة، وكذلك شقيقى الأكبر محمد، الذى كان قد سافر للعمل فى القاهرة من قبلى،
قلت لأخى على: «عاوز أشتغل واكسب، زى ما بتعمل انت وأحمد ومحمد»، تعجب «على» مما قلته، فقد كنت صغير السن للغاية، وليس من المعتاد أن يفكر من هو دون السادسة فى العمل والكسب، فسارعت بإكمال كلامى: «أنا وفرت تلاتين قرش، عاوزك تشترى لى بيهم بلالين وبمب وحرب أطاليا، أحطهم فوق المصطبة اللى قدام بيتنا، وأبيعهم فى العيد!».
واستجاب أخى «على» لطلبى، بل وشجعنى عليه حين رأى الإصرار فى عينى، لم أفهم ما الدوافع التى ساقتنى للتفكير بهذه الطريقة، التى لم يكن لها سابقة بين أطفال العائلة! كيف واتتنى الشجاعة أن أواجه أهل القرية، كبارها وأطفالها بهذا الأمر؟! لا أدرى، المهم أننى قد فعلتها، والأهم، أننى ولله الحمد نجحت من المرة الأولى. مع نهاية العيد زاد رأس المال، فقد ربحت 10 قروش كاملة، حتى أصبح رأسمالى 40 قرشاً، شعرت بسعادة كبيرة ورضا لا يوصف وأنا أبيع الشىء بأكثر من سعره الذى اشتريته به، وأحصل على أرباح. منذ هذا اليوم ترسخت فى عقلى صورة ذهنية محببة عن فكرة التجارة، جعلتنى أرتبط بها عمرى كله، لم أنفق رأسمالى وما زاد عليه من ربح، بل ادخرته كله حتى اقترب عيد الأضحى، فطلبت من أخى «على»، أن يعيد ما فعله أول مرة، ففعل ذلك وهو مسرور، رحمة الله تعالى عليه.[FirstQuote]
«أبى إبراهيم العربى»
«قول الحق، وماتخافش إلا من اللى خلقك!».. فى هذه الجملة القصيرة، وبذلك التوجيه المركز، تتلخص الثقافة التربوية الفطرية لوالدى إبراهيم العربى، التى كان يبثها فينا ونحن صغار، إنها تحمل البساطة والتلقائية، القائمة على دعائم إيمانية صادقة، المنطلقة من الفطرة الإنسانية السليمة لأهل ريف مصر، كان الصدق والإخلاص والأمانة فى معاملة «إبراهيم العربى» للناس من حوله، تشكل عجلة قيادة بين يدين قويتين، بفضل العمل فى الزراعة، لقد نجحت تلك اليدان فى تسيير سفينتنا الصغيرة نحو بر الأمان والعيش الكريم، منذ تزوج من أمى، وحتى لقى الله عز وجل.
أمى.. هانم
كانت سيدة ريفية بسيطة، تتسم بالصبر والقناعة، كانت تربوية بطبعها وفطرتها، توجيهاتها الأخلاقية نابعة من القرآن الكريم، كما كانت معظم الأمهات فى ريف مصر، كانت مثل أبى تحثنا على الصدق والأمانة، وعلى الإحسان إلى المحتاج، ومساعدة الغير دون أن تنتظر مقابلاً لتلك المساعدة، كانت أمى تكثر من الدعاء لى ولباقى إخوتى، كأنها تستمتع بالدعاء طول الوقت، كانت فخورة بى بشكل خاص بسبب إتمامى لحفظ القرآن الكريم كاملاً، كانت السعادة الغامرة تلف أمى -رحمها الله- حين ترانا يداً واحدة، لا يفسد المال أو البنون حبنا لبعضنا البعض، كانت تذكرنا دوماً بألا نترك الدنيا تفعل فى قلوبنا فعلها فى كثير من البشر، خاصة حين تفتح لهم ذراعيها، وتمنيهم بالسراب الكاذب والسعادة الزائفة التى تتأسس على الطمع وطاعة النفس الأمارة بالسوء.
مغادرة «أبورقبة»
كانت أول مرة أغادر القرية فى سفر طويل، لقد ارتبط مصيرى بمصير بلدتى «أبورقبة»، وبرغم ابتعادى عنها منذ بلغت العاشرة واستقرارى فى القاهرة، إلا أن حبها لم يزل يدفعنى دفعاً إلى زيارتها كل حين، حتى ولو صدر من بعض أبنائها ما يحزننى ويكدر صفاء حبى وولائى لها ولهم.
القاهرة، تلك المدينة الكبيرة التى نسمع عنها قصصاً خيالية وأسطورية كأنها قصص ألف ليلة وليلة، وكان حلمى مجدداً وهدفى واضحاً، أن أجرب حظى فى البيع والشراء هناك، وهذا ما أوصيت به أخى على بشكل واضح لا لبس فيه: «أن يجد لى عملاً فيه بيع وشراء».
العمل الأول فى القاهرة
فى ظل كل الأحوال المثيرة المتناقضة، كان أخى «على» يعمل فى محل أقمشة «عبدالعزيز الديب» بالموسكى، مع أخى «محمد»، كان الموسكى أيامها ولعقود متوالية هو الحى التجارى الأشهر فى مصر كلها، ومعه المناطق التجارية: بين الصورين، الأزهر، الغورية، والنحاسين، كان التجار يأتون إلى تلك المناطق من كل مكان فى محافظات مصر، ليشتروا ما يحتاجونه من بضاعة وسلع، جاء لى أخى «على» بعمل فى مصنع عطور بالموسكى كان صاحبه صديقاً له، لم يكن مصنعاً للعطور فى حقيقة الأمر، بل كان عبارة عن ورشة فى محل صغير بالموسكى، يمتلكه الحاج «عبدالفتاح البلبيسى»، وكان عملى لا يتعدى إغلاق الزجاجات «بالفلة» بعد تعبئتها، ثم بالغطاء الأساسى، ثم لصق «تيكت» الماركة المسجلة، لم أتحمل هذا العمل لأكثر من شهر، سألنى أخى عن السبب، قلت إننى جئت للقاهرة لأعمل فى البيع والشراء، أريد أن أتعامل مع الناس وأعمل فى التجارة، «أنا ماجيتش أقفل القزايز بالفلة يا على!»، ضحك أخى «على»، رحمه الله، ووعدنى بمساعدتى فى البحث عن عمل فيه بيع وشراء، بعد أيام من تركى للعمل فى ورشة العطور، جاء لى أخى بعمل آخر فى محل فى شارع «أم الغلام» خلف مسجد «سيدنا الحسين»، كان يواجه باب مسجد «أم الغلام» الصغير، وبرغم صغر حجمه، فإنه كان مليئاً بالخردوات والأدوات المكتبية ولعب الأطفال الرخيصة والسجائر، كان ذلك ما أريده تماماً: أن أبيع وأشترى.
كان اسم صاحب المحل «عبدالرازق عفيفى»، ولكنه اشتهر باسم: عم رزق، من أول يوم عمل علمنى عم رزق، رحمه الله، أهم درس أثر فى حياتى التجارية كلها: الأحسن أن تكسب قليلاً، وتبيع كثيراً، واستمر عملى مع عم «رزق» حوالى سبع سنوات، من عام 1942 وحتى عام 1949، وبدأت العمل هناك بأجر 120 قرشاً فى الشهر، وانتهيت بأجر 320 قرشاً، وكان أجراً لا بأس به أبداً لصبى فى عمرى، كان العمل يأخذ كل وقتى منذ وطأت قدماى مدينة القاهرة، كنت أبذل جهداً غير عادى سواء عند عم رزق، أو فى محل النصر بعد ذلك، وكانت أغنيات «أم كلثوم» من الأشياء التى كانت تخفف عنى وقع الإرهاق الشديد، كان الاستماع إليها فى تلك الفترة ينسينى الكثير من هموم الدنيا وضغوط العمل. أذكر أننى عشت سنين أنتظر الحفل الشهرى الذى كانت تقدمه «أم كلثوم»، وكانت تنقله الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، كثيراً ما تمنيت لو امتلكت ثمن التذكرة كى أراها وهى تغنى على المسرح، ولكن ذلك لم يتيسر لى فى تلك الفترة، فقد كان ثمن التذكرة حوالى عشرة جنيهات، بينما كان راتبى فى أحسن حالاته، وبعد أن مرت علىَّ سنوات طويلة كبائع فى الموسكى: 27 جنيهاً. [SecondQuote]
مرحلة زواجى
فاجأتنى أمى أثناء إحدى إجازاتى فى القرية بقولها: «محمود»، انت كبرت ولازم تتجوز يا ابنى!، «والحمد لله إن مرتبك دلوقتى ممكن يفتح بيت»، نفس هذه الفكرة كانت تراودنى بإلحاح، ولكن من قبيل التأدب معها سألتها إن كان الأمر لا يزال مبكراً؟ فأشارت إلى استقرار أخى محمد مع زوجته فى البيت، وأكدت لى أننى بالزواج سأركز أكثر فى عملى، وسيوسع الله لى فى الرزق، سألتها عن العروس التى تفكر فيها؟ قالت لى: «طبعاً هانم بنت الحاج عيد، هو فيه غيرها؟! مش دى اللى أبوك، الله يرحمه، اختارها لك». ولم أتردد، توكلت على الله تعالى، وأتممنا الزواج.
استقرت زوجتى هانم فى بيتنا بالقرية أيام الزواج الأولى، وبعد أن عدت للعمل فى القاهرة، رجعت لبيت والدها، وكانت تأتى لتنتظرنى فى بيتنا مساء السبت، ونبقى سوياً حتى فجر الاثنين، حيث أرجع لعملى فى القاهرة، سارت الأمور على ما يرام فى سنوات زواجنا الأولى، رزقنا الله بأول مولود، سميناه على اسم أبى رحمه الله «إبراهيم» وأيضاً على اسم أول أبناء محمد شقيقى.
كانت فرحتنا بإبراهيم كبيرة، وكان قدومه خيراً وبركة، فقد رفع الحاج عبدالفتاح راتبى قبل ولادته بوقت قليل، ليصل إلى ستة جنيهات وكان ذلك المبلغ جيداً أيامها، فكان يكفينا ولله الحمد، خاصة مع قدرات زوجتى على الاقتصاد والتوفير، وأيضاً مع رخص الحياة فى الريف فى تلك الآونة، بعد سنتين رزقنا الله بابنتنا «منى»، وتوقعنا رزقاً أوسع مع قدومها، فمما يعتقده أهل ريف مصر أن مولد البنت يصحبه سعة فى الرزق أكثر من الولد، ثم رُزقنا بفضل الله تعالى ممدوح، محمد، ماجدة، مصطفى، منصور، مدحت، وأخيراً محيى الدين.
كانت زوجتى تشعر بالسعادة الكبيرة وهى وسط أولادها، وكانت تحب أن تحكى لأولادنا عن أيامها فى «أبورقبة»، قبل الزواج، وعن سبب تسميتها «هانم الحلاوة»، حيث كانت مدللة فى القرية، وكيف كانت فى طفولتها سريعة البكاء، إذا ما أساء أى شخص إليها، مهما كانت إساءة بسيطة.
تعودت بعد أن تزوج عدد من أبنائنا وبناتنا، وقبل أن ننتقل لنعيش فى مكان واحد، أن يتناول الجميع طعام الغداء فى بيتنا بالعباسية يوم الأحد، وكانت ابنتنا «منى» تسكن فى نفس الشارع، فكانت تأتى من الصباح، ثم تلحق بها زوجات أبنائى، ليساعدن فى إعداد الطعام، كان ذلك التجمع يدخل السرور على قلبينا بدرجة كبيرة، حيث كنا نذكر معاً سنوات مضت من الجهد والصبر والعمل. أيضاً فى رمضان، كانت هانم تحب أن نفطر معاً كل يوم، إلا إذا كان هناك التزام عند أحدهم.
بدأت زوجتى رحمها الله رحلة مرضها يوم 6 رمضان الموافق 6 سبتمبر سنة 2009، أدخلناها المستشفى، وكانت رحلة عمرة رمضان قد حل موعدها، فسألتها إن كنت أذهب للعمرة أم أبقى معها؟ فحثتنى على الذهاب لأداء العمرة كى ندعو لها، وبالفعل سافرنا، أنا وأخى محمد وابنىَّ محمد ومدحت.
اتصل بى الطبيب بعد أيام قليلة وأبلغنى خبر وفاتها، كان لذلك الخبر وقعه الأليم علىَّ وعلى كل أفراد العائلة. قررت ألا نغادر الأراضى المقدسة حتى ننتهى من أداء العمرة فى اليوم التالى، لنعمل لها عمرة، ونكثر فيها من الدعاء لها بالرحمة والمغفرة.
«الجيش والحرب واحتراف التجارة».. كل مواليد 1932 إعفاء.. إلا أنا
فى نفس السنة التى جئت فيها بأسرتى الصغيرة إلى القاهرة -عام 1954- طلبونى لأداء الخدمة العسكرية! كانت مفاجأة غير سارة نهائياً، كان عمرى حينئذ 22 سنة، وكان لدينا من الأبناء إبراهيم ومنى، وكنت فى هذا الوقت أعمل بشكل جيد ومستقر فى شركة «النصر».
ذهبت إلى قسم الجمالية يوم 27 أبريل 1954 «هذا يوم لا يمكن أن يمحى من ذاكرتى، إلا أن يشاء الله»، كتبوا خطاباً موجهاً لمركز التجنيد حيث يتم تجميع الجنود، بما يفيد أنى هارب من أداء الخدمة العسكرية، ويجب أن أعامل معاملة الهاربين! حاولت أو أوضح لهم أنى لست هارباً، بل سلمت نفسى فقط فى مكان غير محل إقامتى المدون بالبطاقة «أى فى قرية أبورقبة أشمون المنوفية»، حتى لا أعامل معاملة سيئة، ولكن لم يستمع إلىَّ أحد، لما وصلت لمركز التجنيد ومعى الخطاب، أخذونى مباشرة وعاملونى بغلظة بصفتى هارباً من التجنيد، عاصياً للأوامر، ثم ألحقونى بسلاح «الأنوار الكاشفة».
العجيب فى الأمر أن الدفعة التى رفضتُ أن أساق معهم، أخذوا جميعاً تأجيلات! كتبوا لكل واحد منهم فى شهادة الإعفاء: «لم يصبه الدور»، وبالتالى لم يؤدوا الخدمة العسكرية نهائياً، أنا الوحيد فى كل الدفعة الذى أصابه الدور عام 1954!
لقد تعلمت من ذلك الموقف الكثير، فطنت إلى كيفية سريان أقدار الله بين العباد، تعلمت ألا أعترض على القدر، خيره وشره، وتعلمت ألا أحاول التميز عن الناس من حولى، وكانت مدة خدمتى العسكرية بالتحديد 3 سنوات.
فى 1 أغسطس عام 1958، أنهيت الخدمة العسكرية، وعدت للعمل فى شركة «النصر»، وهذا يوم لا ينسى هو الآخر، كانت الثلاث سنوات التى قضيتها فى الجيش قد كونت لدىَّ شعوراً بأهمية القوة، وأهمية أن يمتلك الفرد أسلحته، التى تمكنه من الدفاع عن نفسه بها، فلا ينتظر من الآخرين أن يأتوا ليحموه، بدأت فى رفض فكرة الاستمرار فى الوظيفة الثابتة، التى لن تصل بى إلى تحقيق طموحاتى الكبيرة، ولن تساعدنى على أن أقدم العون والمساعدة لمن حولى ممن أحب، نعم، كنت أؤدى عملى بكل أمانة وحب مع الحاج عبدالفتاح، ولكن عقلى وذهنى، وكل حواسى كانت تبحث عن اليوم الذى سأترك العمل فيه معه، لنبدأ فى تحقيق حلمنا التجارى الخاص، بدأت أنا وصديقى «عنتر عبدالوهاب» نحلم ونخطط معاً لأن يكون لدينا محل خاص، وأن نبدأ فى شق طريقنا نحو إنشاء شركة تجارية خاصة بنا، ورغم أننا لم نكن نمتلك أى أموال لتحقيق ذلك الحلم، فإننا خلال فترة الزمالة الطويلة لم نتوقف عن الحديث حوله، وقد طرح «عنتر» علىَّ فكرة أن نبحث عمن يمولنا برأس المال، ونحن نشاركه بالمجهود.
فى تلك الأيام، كان فى مواجهة موقع شركة «النصر» مباشرة محل له خمسة أبواب اسمه «البرنسيس»، وكنت دائم الدعاء لله يومياً، حيناً فى السر، وأحياناً عديدة بصوت عال: «يا رب.. مائة ألف جنيه ومحل البرنسيس!».[ThirdQuote]
فى عام 1964، أى بعد 6 سنوات من الزمالة والصداقة العميقة مع «عنتر»، ومع إلحاح الحلم المشترك بيننا، وجدنا ضالتنا فى أخوين تاجرين فى الصعيد، كان يتردد أكبرهما، واسمه «محمود عباس»، على الموسكى ليشترى احتياجاته من البضاعة، ليعرضها فى المحل الخاص بهما فى مدينة كوم أمبو، وافق الأخوان على تمويل المشروع، والمشاركة فيه بمبلغ 4 آلاف جنيه، كان ذلك يمثل مبلغاً كبيراً فى تلك الأيام، سبحان الله، كانا هما أيضاً يبحثان بجدية عن فرصة للتجارة فى القاهرة، فكان اتفاقنا معهما عادلاً: أن يدخلا معنا بالنصف، بحيث يكون لكل واحد منا 25% من الأرباح.
كان افتتاح أول محل باسم «العربى»، فى يوم الأربعاء 15 أبريل 1964 «نفس يوم ميلادى»، قبل عيد الأضحى بعدة أيام، يومها جاءنا حوالى 200 «بوكيه» ورد كهدايا.
إننى على يقين من فكرة أن الأعمال الكبيرة إنما هى وليدة الإصرار على تنفيذ حلم كبير، تبدأ بفكرة بارقة محددة، تستقر فى العقل لفترة حتى يضيق بها، وتبدأ النفس الإنسانية حين تكون ذات همة وطموح وتمتلك رصيداً من الأخلاق والقيم الراسخة، فى السعى الدؤوب لتحقيق حلمها.
بالنسبة لمراحل التصنيع فى البداية سيطرت علىَّ لسنوات طويلة الفكرة، حيث لم أستطع أن أكتفى بالتجارة فقط، نعم، كانت الحركة التجارية جيدة جداً فى بيع الأدوات المكتبية والخردوات ولله الحمد، ولكنى لم أتخلص من فكرة بيع منتجات من صنعنا، ولكنها ظلت لفترة مجرد أمل لا ندرى كيف نحققه، وحين واتتنا الفرصة ووافقت الأقدار ما نحلم وما نطمح إليه، لم نتردد ولم نتأخر. بدأنا بخطوات قصيرة، لكنها كانت جادة وناجحة. فى عام 1966، وبسبب حظر الاستيراد تماماً، بدأنا فى تصنيع ألوان الشمع «ألوان الزيت الجاف»، حيث كانت مبيعاتها رائجة لطلبة المدارس والأطفال فى مرحلة رياض الأطفال، فى جميع أنحاء الجمهورية.
وأؤكد هنا أن مبدأنا فى الصناعة لم يتغير منذ تلك الأيام، أن نصنع ما نعرف كيف نبيعه، نبدأ بتجارة السلعة أولاً، فإذا نجحنا نبدأ فى السعى لتصنيعها.
حين بدأ عصر الرئيس السادات مع نهاية 1970، اتجهت فيه كل موارد الدولة لصالح التجهيز للحرب مع إسرائيل، وتوقفت مصادر تجارة الكشاكيل والكراريس، ولم تكن تجارة الأدوات المكتبية الأخرى تكفى لتغطية التزاماتنا الكثيرة، وقد بدأت طائفة من التجار يدخلون أجهزة كهربائية إلى مصر عن طريق ليبيا والكويت والسعودية، وكانت أجهزة التليفزيون والراديو كاسيت فى مقدمة تلك السلع، وكانت أغلبها أجهزة ماركات «ناشيونال باناسونيك» و«سانيو» و«سونى» و«أيوا» و«توشيبا».
ولقد وصل ذكاء اليابانيين لما وجدوا السوق المصرية غارقة بالأجهزة الكهربائية اليابانية، أن بدأوا فى تنفيذ حملات إعلانية فى السوق المصرية، برغم حظر الاستيراد فى مصر فى ذلك الوقت، ودخول الأجهزة لم يكن عن طريق اليابانيين أنفسهم، ولكن المسوق اليابانى الذكى ما يهمه -فى النهاية- هو بيع منتجه، والحصول على ثقة المستهلك المصرى، لقد رأيت فى ذلك المسلك -وقتها- قمة فى الذكاء التسويقى والترويجى، وكان ذلك فى أعوام 1971، 1972، 1973.