«بدون سابق إنذار».. جوهرة في تاج الدراما!
هذا عمل متكامل فنياً، راقٍ إنسانياً، مؤثر عاطفياً، لا يشبه شيئاً من مسلسلات الأصوات الصارخة والألوان الصاخبة والابتذال من حركة الكاميرا إلى حركات أجسام الممثلين.
هذا عمل هادئ النبرة، عميق الفكرة، محكم الحبكة، لا مجال فيه لعبارة فائضة أو تعبيرات فضفاضة، يقاس أداء الممثل فيه بقدر ما يظهر من مشاعر تحت جلده، وليس بقدر ما يضعه من ماكياج فوق وجهه.
«بدون سابق إنذار» مسلسل من عالم آخر، ربما ظلمه العرض فى زحام رمضان، وربما يحتاج إلى مزاج واستعداد مختلف.
ذلك أنه، أيضاً، عمل ثقيل الوطأة، مجهد نفسياً، يجلب الحيرة أكثر مما يوفر الراحة، ويتحدى المسلمات بدلاً من أن ينحنى أمامها.
على السطح يحمل «بدون سابق إنذار» قصة ميلودرامية بسيطة: زوجان شابان غير سعيدين، لأسباب تافهة من تلك التى تملأ بيوت الطبقة الوسطى العاجزة عن التوفيق بين التزاماتها العاطفية ومستلزماتها الاقتصادية، ينقلب قارب حياتهما الهش مع أول عاصفة حقيقية تظهر فى حياتيهما: طفلهما الوحيد الذى يبلغ من العمر ثمانية أعوام مصاب بسرطان الدم. وإذا كانت هذه المصيبة لا تكفى، فهما يكتشفان أيضاً أن الولد ليس ابنهما، وأنه جرى استبداله بطفل آخر فى مستشفى الولادة.
وهذه، فقط، مفاجآت الحلقتين الأولى والثانية من «بدون سابق إنذار».
حتى الآن، وقد مر ثلثا العمل تقريباً، تسير الحلقات بإيقاع مشوق أتمنى ألا يفقد سرعته بالتطويل أو القفز إلى تفريعات بوليسية تخرج به عن مزاجه العام ونوعه الفنى، طالما نردد أن العبرة فى الفن ليست بالفكرة، ولكن بمعالجة هذه الفكرة ومنحها حياة تخصها وحدها ولا تشبه غيرها.
عن قصة شيقة وراقية نتاج عمل مشترك لألما كفارنة وسمر طاهر وعمار صبرى وكريم الدليل وعمرو الدالى، ينسج المخرج هانى خليفة عملاً محكم البناء، يقود من خلاله فريق ممثليه مثل قبطان ماهر عبر طبقات كثيفة من المواقف والمشاعر.
منذ فيلمه الأول «سهر الليالى»، الذى قام فيه بتحويل عدد من قصص العلاقات الزوجية والعاطفية المتعثرة إلى بانوراما حول صعوبة وتعقد هذه العلاقات، وهانى خليفة مشغول دوماً باستكشاف هذه المنطقة الشائكة الموجودة فى كل بيت وأسرة على وجه الأرض، والتى طالما تتعامل معها السينما والدراما التليفزيونية بتنميط وأفكار جاهزة الصنع.
إن فتور وتصدع العلاقة التى تربط الشخصيتين الرئيسيتين، مروان (آسر ياسين) وليلى (عائشة بن أحمد)، فى بداية «بدون سابق إنذار» ما هى إلا مقدمة تفتح «هويس» الأسئلة حول ماهية الحب والزواج والبنوة، التى يتعامل معها أغلب الناس على أنها أمور مسلم بها، مثل الماء والهواء فى حياتنا، ولا يبدأون فى التساؤل عن معناها وجدواها إلا عندما تأتى صدمة غير متوقعة تزلزل هذه الأرض الثابتة تحت أقدامهم.
تأتى الصدمة الأولى مع احتمال فقدان طفلهما الوحيد، وسعيهما المحموم للبحث عن علاج لمرضه الصعب، ثم تأتى الصدمة الثانية مع اكتشافهما أن الطفل ليس ابنهما البيولوجى، بالرغم من شعورهما بالحب والارتباط الأبوى والأمومى تجاهه. ومع التفكير بأن طفلهما البيولوجى ربما يوجد فى مكان ما، بين أسرة لا ينتسب إليها، تتشتت المشاعر بين الخوف من ضياع طفلهما الذى لم يعرفا ولم يحبا غيره، والرغبة فى العثور على طفلهما الحقيقى.. بجانب السؤال المزمن حول علاقتهما ومدى تماسكها تحت وطأة التصدع الذى أصابها والرياح التى تعصف بها.
ربما يخلو «بدون سابق إنذار» من المعارك و«الأكشن» الذى تعج به مسلسلات أخرى، ولكن الدراما العائلية التى يغوص فى دهاليزها أكثر تشويقاً وعنفاً. وربما يخلو العمل من المواقف «التمثيلية» الصارخة، ولكن أبطاله يمثلون من أعماق أرواحهم، ويثبت آسر ياسين بالتحديد من خلال دور «مروان» أنه ممثل كبير إذا حصل على الأدوار التى تناسب طبيعة موهبته: الأداء الداخلى وامتلاك تفاصيل الشخصية الباطنية التى تتجلى فى اختلاج عضلة صغيرة فى وجهه أو لفتة عابرة حوله أو حركة يد خفيفة تبوح بما يفكر فيه، عائشة بن أحمد ممثلة ممتازة يمكنها التلون وفقاً لأى دور تلعبه، وهى جميلة مثل النجمات، ولكن جمالها شفاف يكشف عما يختلج تحته من أحاسيس وأفكار.
وجودة التمثيل فى «بدون سابق إنذار» لا تقتصر على البطلين، ولكنها تمتد إلى الرائعين أحمد خالد صالح وجهاد حسام الدين، التى تؤدى دور المرأة القادمة من أسرة شعبية فقيرة بواقعية تخلو منها معظم المسلسلات «الشعبية»، بجانب بقية فريق الممثلين الممتازين ومنهم الطفل سليم يوسف الذى يؤدى بشكل طبيعى كل التحولات البدنية والنفسية التى يمر بها.
هذا واحد من أفضل أعمال الموسم وأكثرها تميزاً واختلافاً.