الجينات تحدد مسار العلاج فى أمراض المناعة (2 - 2)

تحدثنا فى المقال السابق عن أمراض المناعة، والنظريات التى تحاول تفسير سبب حدوثها، ولكن الذى ينبغى أن نعرفه أن التفاوت فى الأعراض والمضاعفات والاستجابة للعلاج بين المرضى الذين يعانون من نفس المرض يعد تفاوتاً ضخماً، فبينما تصاب سيدتان بمرض الذئبة الحمراء، نجد أن إحداهما قد استطاعت التعايش مع المرض بجرعات بسيطة من الأدوية، بينما الأخرى تكاد تستخدم كل أنواع العلاجات المتاحة دون نتيجة، ليس هذا فحسب، بل إن المضاعفات التى قد تحدث لها قد تؤدى إلى فشل بعض أعضاء الجسم، مما يؤدى إلى الوفاة، وبين الحالتين تجد أعراضاً ومضاعفات متفاوتة من شخص إلى آخر، فما الذى يصنع مثل هذا التفاوت الصارخ، وهل هناك وسيلة لكى نكتشف مدى حدة الأعراض وتطور المضاعفات فى المريض ومدى استجابته لدواء أو علاج معين بدلاً من تضييع الوقت والجهد فى علاج لا طائل من ورائه، ولن يستجيب له الجسم؟ ومع التقدم الهائل فى علم البيولوجيا الجزيئية وعلم EPIGENETICS أى ما وراء الوراثة، والذى يربط ما بين تأثير العوامل البيئية على التعبير عن الجينات الوراثية وترجمة صفاتها إلى بروتين، تبين أن هناك بعض العوامل الجينية والبيئية توثر على سير المرض وما يحدثه من مضاعفات واستجابته للعلاج، وقد توصل العلماء إلى ما يسمى بالعلامات الحيوية BIOMARKERS من خلال تحليل الجينات الوراثية، يمكن من خلالها أن نتوقع درجة شراسة المرض، ودرجة استجابته لبعض أنواع العلاج، وقد تم استخدام هذا النوع من التحاليل فى علاج كثير من الأمراض، مثل بعض أنواع السرطان، مثل سرطان الثدى والمبايض، وكذلك بعض أنواع اللوكيميا، وسرطان القولون، والبروستاتا، وغيرها. وقد تم استخدام التكنولوجيا المتقدمة فى هذه التحاليل فى كثير من أمراض المناعة الذاتية، فمن خلال معرفة تحاليل العلامات الحيوية يمكن تحديد مدى استجابة مريض الروماتويد، والذئبة الحمراء للعلاج البيولوجى، وإن كان سيفيده بالفعل أم لا، خاصة أنه علاج باهظ الثمن. ويمكن استخدام نفس التكنيك من أجل معرفة مدى شراسة ونوع مرض تصلب الأعصاب المتناثر MULTIPLE SCLEROSIS أو اختصاراً M.S، فقد عـُرف مرض التصـلب المتعدد فى أوروبا منذ مئات السنين، ويعتقد الباحثون اعتقاداً شبه مؤكد بأن أوغـوستـوس فـِريدرِيك دِى إستى (1794 - 1848)، الحفيـد غـير الشرعى للملك جورج الثالث، مـلك بريطانيا العظمى فـى ذلك الوقت، قد أصيب بهذا المرض، أما من نـاحية التاريخ الطبى للمـرض، فإن أول من قام بتدوين أعراض هذا المـرض كان طبـيباً إنجليزياً. والتصلب المتعدد هو مرض التهابى مزمن، يصيب الجهاز العصبى المركزى (المخ والحبل الشوكى)، وذلك بسبب قيام الجهاز المناعى للجسم بمهاجمة أنسجته الخاصة فيما يعرف بالمناعة الذاتية (AUTOIMMUNITY)، وهنا يقوم بتدمير غشاء الميلين (MYELIN SHEATH)، الذى يغلف معظم الخلايا العصبية فى المخ، ما يسبب تكون بقع (لويحات) من المناطق الخالية من الميلين (PLAQUES OF DEMYELINATION)، مما يتسبب بظهور أعراض المرض والإعاقة فيما بعد، وقد عُرف هذا المرض قديماً باسم التصلب المنتشِر (DISSEMINATED SCLEROSIS)، وهذه تسمية لا تخلو من الدقة، حيث إن السمة الرئيسية المرتبطة بهذا المرض هى أعراضه المنتشرة فى أماكن متعددة من الجهاز العصبى، وعلى أوقات مختلفة أيضاً «منتشر فى المكان والزمان» أما عن تأثير السلوك الغذائى، فهناك علاقة واضحة ما بين الإكثار من تناول الدهون الحيوانية فى الغذاء وبين مرض التصلب المتعدد، وتدعم هـذه العلاقة الإطار الجـغرافى لتوزيع المرضى، حيـث إن الشعـوب التى تسكن بعيداً عن خـط الاستواء هى الأكثر تناولاً لهذا النوع من الدهون مقارنـة بالشعوب التى تسكن فى المناطق الاستوائية. وفى دراسة أجريت حديثاً بالنرويـج، لـوحظ أن نسبـة الإصابة بالمرض تزداد فى المجتمعات الزراعية (حيث اللحوم الحيوانية هى مكـون أساسى بالوجبـات) عن المجتمعات السمكيـة (التى تعتمد على الأسماك بشكل أساسى). يضاف إلى ذلك بعض عوامل الخطر التى تزيد معها نسبة حدوث المرض، كما أن لها علاقة بتحفيـز الانتكـاسـات، ومن أهمها العامـل النفسـى، ومن بين هذه العوامل أيضاً التدخين، حيث إن نسبة المرضى من المدخنين أعلى منها عـند غير المدخنين، وللحمل أيضاً دور فى تسريع الانتكاس وصولاً إلى آخر ثلاثة شهور من الحمل وفترة الإرضاع، حيث تقل نسبة الانتكاس بشكل كبير خلال هذه الفترة، ولوحظ أيضاً أن الانتكاس يكثر فـى فصلى الشتاء والربيع وخصـوصاً بعد الإصابة بأمراض الشتـاء المختلفة، كالزكام والإنفلونزا وغيرهما، وهناك العامل الجينى أيضاً.