الحزب العلمانى المصرى

صخب بدأ ولم ينته بسبب نية البعض تأسيس ما سموه الحزب العلمانى المصرى. أكثر الصخب جاء ليس بسبب البدء فى جمع التوكيلات اللازمة لتأسيس الحزب، ولكن بسبب ما نشرته عنه هذه الصحيفة، والذى بدا الحزب فيه كما لو كان حزباً للملحدين، والفارق كبير بين أن يتحمس الملحدون لتأسيس الحزب العلمانى، وأن يكون الحزب تنظيماً سياسياً للملحدين، الذين قدرهم تقرير أعده الأزهر مؤخراً بأكثر قليلاً من 800 ملحد، وهو عدد لا يقيم حزباً، ولكنه فى بلدنا يمكنه أن يقيم الدنيا ولا يقعدها، حتى لو كانت الأسس التى تم على أساسها تحديد هذا الرقم غير معروفة ولا موثوقة. الربط بين الحزب والعلمانية والإلحاد دعا المؤسسات والأحزاب الدينية للتدخل، فالإلحاد ومقاومته يقع فى صميم اختصاصهم، وإلى جانب هؤلاء تدخل آخرون بخشونة دفاعاً عن الثقافة والهوية الوطنية الوسطية التى تتركب من مزيج علمانى - دينى فريد يكسب الوطنية المصرية خصوصية ومذاقاً مميزاً، وهو مفهوم أتفق معه وأعززه، وإن كنت لا أظن أن الدفاع عنه يحتاج إلى كل هذه الغلظة. حتى لو لم تكن جريدة «الوطن» تعاملت مع الحزب المزمع إنشاؤه بهذه الطريقة فإن اسم الحزب كان كفيلاً بإثارة الجدل حوله، فالإساءة لمصطلح العلمانية وتنفير الناس منه كان من أهم إنجازات الإخوان والسلفيين بألوانهما المختلفة خلال عقود صعودهم الأربعة، وهؤلاء، رغم هزيمة أغلبهم فى موقعة الثلاثين من يونيو، ما زالوا يحتلون مساحة كبيرة فى أذهان وثقافة المواطنين، وهى المساحة التى لن يتخلوا عنها بسبب هزيمة سياسية واحدة، على العكس فإن الركائز الثقافية التى قاموا بإرسائها، ومن بينها تشويه العلمانية، تتيح لهم قاعدة انطلاق صلبة من أجل تعويض خسارتهم فى لعبة السياسة التى برهنوا أنهم فى دهاليزها ما زالوا مبتدئين. الصراحة، أو سمِّها الفجاجة، فى التعبير عن المحتوى الفكرى للمشروع الذى يمثله الحزب العلمانى هى السبب الرئيسى فى الصخب الذى قابل الشروع فى تأسيس الحزب. فمبادئ الحزب ليست جديدة على مسرح السياسة المصرية، فالكثير من الأحزاب القائمة يتبنى مبادئ مماثلة، وإن لم يضعها فى موقع الصدارة من أهدافه، فجاءت ضمن قائمة طويلة من الأهداف، فهذا حزب يسارى، وذاك حزب ليبرالى، وفى هذا الإطار أو ذاك يتم وضع العلمانية والترويج لها. فالجديد فى الحزب العلمانى هو وضعه العلمانية فى صدارة مبادئه، حتى بدت وكأنها مبدؤه الوحيد، والجديد فيه أيضاً عدم تهيبه اختيار العلمانية اسماً له، متفوقاً فى جرأته على ما ذهب إليه الراحل المغدور فرج فودة، أهم المدافعين المصريين عن العلمانية فى النصف قرن الأخير، والذى اختار «المستقبل» اسماً لحزب علمانى لم يكتمل تأسيسه أبداً. الجرأة فى تبنى العلمانية هى سبب الصخب الذى أطلقه خبر تأسيس الحزب، وهو بالتأكيد السبب الذى حول مجرد خبر الشروع فى تأسيس الحزب إلى حجر كبير تم إلقاؤه فى البركة الراكدة التى تبدو مياهها الآسنة قادرة على ابتلاع الأحجار مهما كبرت، وعلى استعادة الركود المميت الذى يميزها. لدى شكوك فيما إذا كان للحزب العلمانى المصرى فرصة فى ساحات السياسة المصرية. فالأفكار التى يروج لها الحزب ليست من بين الأفكار التى تستهوى أعداداً كبيرة من المصريين، ولا الجرأة فى الطرح المميزة لأدائه واختياره لاسمه تناسب الثقافة المصرية المراوغة، التى تفضل وتحب وتمارس أشياء كثيرة لكنها تطلق عليها مسميات تختلف عن تلك التى يحب المثقفون استخدامها، والتى تفضل الحلول والمناورات العملية على الاستقامة الفكرية والاتساق المبدئى. فعالم الأسماء والمصطلحات هو عالم المثقفين الذين قد يتخاصمون وينقسمون على كلمة أو حرف، فيما الناس يعيشون فى عالم الأفعال التى يرونها مفيدة، غير عابئين كثيراً بالأسماء، حتى أصبح «البتاع» واحداً من أهم مميزات الثقافة ولغة التخاطب السائدة. المفارقة بين الأسماء والأفعال، وبين الأشياء ومسمياتها، ليست حكراً على عموم المواطنين، ولكنها تطال أصحاب حزب العلمانية المصرية أيضاً. اطلعت على ما قاله وكتبه الناطقون باسم حزب العلمانية المصرية، فوجدتهم يتحدثون عن منتدى فكرى أو جمعية ثقافية فيما يجمعون التوكيلات لتأسيس حزب سياسى. لدى أصحاب الحزب العلمانى قضية واحدة تشغل عليهم أفكارهم، وهذا هو حال الجمعيات وجماعات الضغط، أما الحزب السياسى فله قصة أخرى، تبدأ بالسعى للسلطة وتنتهى عند الاحتفاظ بها. أصحاب الحزب الجديد لا يتحدثون عن السلطة ولا يهتمون بها، فكل ما يشغلهم هو نشر الأفكار وترويجها، فيما تنشغل الأحزاب الحقيقية بجمع الأصوات والمناصب ومقاعد البرلمانات. أصحاب المنتديات يمنحون الناس مبادئ وأفكاراً، فيما أصحاب الأحزاب يأخذون منهم الأصوات ومظاهر التأييد. وفى هذا يتشابه الحزب العلمانى مع السياق الذى يحاول التمرد عليه، فأغلب أحزابنا لا تزيد على كونها منتديات صغيرة مغلقة على أصحابها، وها هم القائمون على مشروع الحزب العلمانى يضيفون إليها كياناً جديداً. لاحظ عزيزى القارئ أننى لم أطالب أبداً بحل أحزاب دينية قائمة رغم نصوص الدساتير والقوانين، لأننى لست ممن يظنون أن النصوص تخلق واقعاً حتى لو ساهمت فى تشكيله. ومن نفس المنطلق العملى الذى يرفض إخفاء الرؤوس فى الرمال أزعجنى الصخب الدائر حول الحزب العلمانى. اتركوا أصحاب الحزب العلمانى يخوضون تجربتهم ويلقون حجرهم، فربما أدت كثرة الأحجار لردم البركة، وليس فقط لتحريك مياهها. والمهم هو أن تتاح للكثيرين الفرصة لإلقاء الأحجار، فتأتى مختلفة متنوعة، وعندها سيظهر لنا بدلاً من بركة المياه العطنة شىء آخر لم نعرفه من قبل ولم نتوقعه سلفاً.