الأزمة اليمنية على مفترق طرق!

لا نعرف بعد ما الذى جعل المملكة السعودية تعلن فجأة وقف عملية عاصفة الحزم، دون أن يبدو فى الأفق القريب ما يشير إلى أن الحوثيين سوف يرضخون لمطلب الانسحاب الكامل من كل المدن اليمنية وتسليم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة، كما أرادت السعودية ونص قرار مجلس الأمن، وإن كنا نعرف أن السعودية لم يكن فى وسعها الالتزام بوقف إطلاق النار بينما يواصل الحوثيون عملياتهم العسكرية، ويحاولون مد وجودهم العسكرى إلى مواقع جديدة والاستيلاء على مقر اللواء مدرع 35 فى تعز بعد إعلان وقف عاصفة الحزم! ولا يزال القتال يجرى على أشده، قوات التحالف السعودى تقصف مواقع الحوثيين فى الشمال والجنوب وفى صنعاء وتعز وعدن بصورة تكاد تكون يومية، بينما تشتد المواجهات المسلحة بين الحوثيين والشوافع فى مناطق الجنوب اليمنى إلى ما يقرب من الحرب الطائفية، ويزداد التوتر على حدود اليمن شمالاً مع السعودية، حيث يحاول الحوثيون تأليب القبائل الزيدية بسبب الدمار الشديد الذى أصاب معظم المناطق، كما يحاولون إثارة الحساسيات القديمة منذ ثلاثينات القرن الماضى، عندما نشبت الحرب بين البلدين، وتمكنت السعودية من ضم مناطق عسير ونجران وجيزان إلى حدودها، ومع الأسف يكاد يتمزق اليمن إرباً ويفقد وحدته بسبب صراعاته الشديدة بين الشمال والجنوب والزيديين والشوافع، والحوثيين والزيديين، وأنصار على عبدالله صالح وجماعات الرئيس عبدربه، وجماعة الإخوان المسلمين وبقايا حزب المؤتمر، حيث يحتكم الجميع إلى السلاح! ولا يبدو أن نداءات على عبدالله صالح الأخيرة على الحوثيين ودعوتهم إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن والانسحاب من المدن وتسليم أسلحتهم الثقيلة سوف تغير شيئاً من واقع اليمن الراهن، لأن كل الأطراف فقدت ثقتها فى الرئيس السابق على صالح، ولا ترى فى موقفه الجديد أكثر من محاولة أخيرة كى يكيف أوضاعه مع واقع يتغير فى غير صالحه! ويأمل الحوثيون فى أن تشتد ضغوط المجتمع الدولى على السعودية لتسمح بمرور قوافل الإغاثة إلى كافة المواقع بما فيها مواقع الحوثيين، بسبب الوضع الكارثى فى معظم مناطق اليمن بعد شهر من حرب ضروس اعتمدت على القصف الجوى لقوات التحالف، أسفرت عن تدمير بالغ لعدد من المدن والمواقع اليمنية، راح ضحيتها ما يقرب من ألف قتيل وثلاثة آلاف جريح، فضلاً عن شح الغذاء وندرة الخبز وقلة مياه الشرب وانقطاع الكهرباء وتوقف معظم المستشفيات وتعطل الطرق وإغلاق المطارات والموانئ، والأكثر خطورة من ذلك ما خلفته الحرب من جراح عميقة زادت المسافات بعداً بين أبناء البلد الواحد، وخلقت حساسيات جديدة زادت من تعقيد العلاقات بين السعودية واليمن التى تكتنفها مشاعر متضاربة من الحب والكره والجفوة والقرب، تكاد تماثل العلاقات بين السوريين واللبنانيين! ومع الأسف يفعل الحوثيون كل ما فى وسعهم لتوسيع شقة هذا الخلاف وتعطيل المرحلة الثانية من عاصفة الحزم التى تستهدف لملمة جراح اليمن ومساعدته على الخروج من أوضاعه البائسة، بهدف إظهار السعودية قوة قاهرة لا تكترث بأوضاع جار فقير يعانى الفاقة والجوع، ولأن إيران تملك الآن فى العالم العربى أبواقاً كثيرة، تشتد الحملة على السعودية خاصة فى دول المشرق العربى «لبنان وسوريا والعراق» الدول الثلاث الأكثر ارتباطاً بإيران! ولا يبدو فى الأفق القريب ما يشير إلى عزم الجانبين وقف إطلاق النار، لأن السعودية تشترط ضرورة خروج الحوثيين من المدن وتسليم أسلحتهم الثقيلة، على حين يؤكد الحوثيون استمرارهم فى مواقعهم وعدم قبول أى تفاوض، ما لم تعلن السعودية التزامها بوقف إطلاق النار، وتسمح بمرور قوافل الإغاثة إلى كافة المواقع بما فى ذلك مواقع الحوثيين، وتجوب منطقة باب المندب قريباً من الساحل اليمنى أكثر من تسع سفن إيرانية بينها سفينتان عسكريتان تقول تقارير البحرية الأمريكية إنها تحمل مواد إغاثة للحوثيين، والواضح أن الحرب اليمنية سوف تتواصل فى صورة مستمرة أو متقطعة إلى أن ينعقد مؤتمر كامب ديفيد الذى دعا إليه الرئيس أوباما السعودية ودول الخليج بهدف طمأنة الجميع على التزام واشنطن بأمن المنطقة، وتأكيد رغبتها فى الحفاظ على صداقتها التقليدية القديمة مع السعودية وتعزيز تحالفها المشترك، مع تأكيد قدرة واشنطن على ضبط سلوك إيران الإقليمى، وإلزامها بعدم تشجيع جماعات الإرهاب ومدها بالسلاح، وضرورة احترامها الشرعية الدولية، لكن الكلمات شىء والواقع شىء آخر، لأن السعودية ودول الخليج لا تستطيع أن تغض الطرف عن نفوذ إيران المتزايد فى العراق وسوريا ولبنان واليمن تحت سمع وبصر الأمريكيين وربما بسبب سياساتهم، خاصة أن واشنطن تملك منذ فترة دلائل عديدة على تورط طهران فى تسليح الحوثيين كى يكونوا عنصر قلق لأمن السعودية فى حدودها الجنوبية مع اليمن، استمراراً لسياسات طهران فى البحرين والمنطقة الشرقية للسعودية، حيث تحاول إيران استثمار شيعة هذه المناطق لإثارة القلق وعدم الاستقرار وبسط المزيد من نفوذها على منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذى أدى إلى توتر متزايد بين الشيعة والسنة ينذر بحرب طائفية لا يعرف أحد مصيرها أو مداها إذا انتقلت شرارة الحرب إلى هذه المناطق، ويزيد الأزمة تعقيداً محاولات طهران الأخيرة استعراض القوة فى منطقة الخليج وباب المندب، وإبراز قدرتها العسكرية المتزايدة وامتلاكها لقدرات صاروخية متنوعة، فضلاً عن سفنها التى تجوب المياه الدولية قريباً من الساحل اليمنى، محملة بأطنان المؤن والمساعدات إلى الحوثيين، وأكثر ما تخشاه السعودية أن تنجح طهران فى أن تحيل منطقة الحوثيين فى صعدة على حدود السعودية شمالاً إلى قاعدة لصواريخها متوسطة المدى، كما هو حال المنطقة الجنوبية فى لبنان تحت سيطرة حزب الله، ولأن إيران شرعت بالفعل فى تنفيذ هذا المخطط، وأمدت الحوثيين بصواريخ بلاستيكية متوسطة المدى يمكن أن تصل إلى الرياض، سارعت السعودية بعمليتها العسكرية عاصفة الحزم كى تضرب هذه القدرة الصاروخية الرابضة على مرمى حجر من حدودها! وما من شك أن اعتراف الغرب والأمريكيين بحق إيران فى تخصيب اليورانيوم، وامتلاك برنامج نووى يضعها على (حافة دولة نووية)، ويمكنها من استخدام التكنولوجيا النووية فى أغراض كثيرة لا يزال يثير قلق جيرانها العرب فى الشرق الأوسط مع ميلها المتزايد إلى توسيع رقعة نفوذها على حساب أمن الخليج وأمن الدول العربية، وربما يكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتعايش العرب مع قوتين نوويتين فى إسرائيل وإيران، تحتلان أجزاء من الأرض العربية، وتملك إحداهما ترسانة نووية تؤكد تقارير أمريكية أنها تنطوى على أكثر من مائتى رأس نووى، اعتماداً على مجرد تطمينات أمريكية يؤكدها الرئيس أوباما فى مؤتمر كامب ديفيد المقبل الذى يجمعه بدول الخليج، الأمر الذى يزيد من صعوبة المؤتمر خاصة أن الأمريكيين يخططون لنقل مفاوضات الأزمة اليمنية خارج الشرق الأوسط، بحيث تجرى تحت علم الأمم المتحدة، وتصبح واشنطن هى عرابه الوحيد ومفتاح التسوية والحل، وهى المسئولة عن ضبط علاقات المنطقة الإقليمية، تركب الجوادين العربى والفارسى وتترك إسرائيل الجواد الثالث الأشد شراسة طليقاً لا يلتزم بأبسط معايير الشرعية وقواعد القانون الدولى، على العكس تزيد من تفوقه العسكرى، وتعطيه امتيازاً إضافياً جديداً يتمثل فى طائرات إف 35 التى سوف تكون إسرائيل أول من يحصل عليها خارج الجيش الأمريكى! ولست أظن أن للأمريكيين مصلحة مباشرة فى تسوية عاجلة للأزمة اليمنية، وإن يكن واحد من أهداف واشنطن أن تتمكن من تمرير اتفاق التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى دون آثار جانبية كبيرة تؤثر على مصالحها فى الشرق الأوسط، وتنجح فى ضبط صراعات الأزمة اليمنية الإقليمية وإدارتها لصالح أهدافها، لكن قضية اليمن فى النهاية قضية عربية - عربية، تملى على الجميع رؤية شاملة جديدة، تعلو على التنافس وسياسات المحاور، وتكرس جهدها لتعزيز القدرة الجماعية العربية على صون الأمن القومى العربى والحفاظ على مقدرات المنطقة، اعتمادا على قدرات العرب الذاتية بدلاً من انتظار عون الآخرين!