دير البلح محطة البريد المصري الغزاوي

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

خرج الرجل على شاشات التليفزيون وهو يأكل قطعاً من نبات الصبر شديد المرارة (الصبار) ويشرح أنها هى الطريقة الوحيدة لاستمرار الحياة، وناشد العالم الحر إنقاذهم من ألم الجوع، وعندما بكت الصغيرة رداً على سؤال من المراسل التليفزيونى عما تريد، قالت «اشتقت للخبز الأبيض» وانهمرت دموعها ولم تكن تعلم أن وراء هذا الحرمان والجوع والألم الفيتو الأمريكى. فعندما رفع المندوب الأمريكى يده معلناً أنه يستخدم حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار فى الأراضى الفلسطينية لم يكن يعلم أنه يقضى على أمل هؤلاء الأطفال فى وجبة ساخنة تحميهم من برد الشتاء القارس، وفى الحصول على قطعة خبز بيضاء يعلوها الزعتر بزيت الزيتون كما اعتادت أن تعطيها إياها جدتها كل صباح مع كوب من الحليب، وأدعو الله ألا تكون هذه الصغيرة الآن من شهداء اليوم بعد أن دكت النيران الإسرائيلية العشرات من المنازل فى دير البلح. تلك البلدة التى يعود تاريخها إلى منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد إبان العصر البرونزى المتأخر، إذ كانت حينها حصناً للمملكة المصرية الحديثة على حدودها مع بلاد كنعان. وأصبحت دير البلح بعد ذلك أقصى الحصون المصرية الستة شرقاً فى منطقة شرق البحر المتوسط فى عهد الملك رمسيس الثانى، إذ بدأت سلسلة الحصون هذه من حصن سيناء فى الغرب وامتدت عبر طريق حورس العسكرى حتى بلاد كنعان. وكان حصن دير البلح مربع الشكل يحتوى على أربعة أبراج موزعة على الزوايا الأربع، بالإضافة إلى خزان مياه. هذا وقد كشفت الحفريات فى دير البلح عن وجود مقبرة مصرية قديمة كبيرة تضم قبوراً ومجوهرات ومتعلقات شخصية أخرى، وقد استخدم سكان الحصن قديماً التقنيات والتصميمات الفنية المصرية التقليدية فى أعمالهم المعمارية، حيث فتحها المسلمون عام ١٣ هجرية على يد عمرو بن العاص وأقام القديس هيلاريون أول دير فلسطينى بالداروم فسميت دير البلح نسبة لهذا الدير والنخل المنتشر حوله، وفى عهد الصليبيين كانت إحدى المدن الرئيسية فى مملكة القدس الصليبية. وتقع المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط وعلى مسافة عشرة كيلومترات. شمال مدينة خان يونس وعلى مسافة ستة عشر كيلومتراً جنوب مدينة غزة. وفى سنة ١١٧٠ استعصى على القائد صلاح الدين الأيوبى دخولها بعد عدة محاولات ولكنه عاد ودخلها عام ١١٧٧ بعد عدة محاولات، وبذلك تعتبر هى أول مدينة حررت فى فلسطين من أيدى الصليبيين، وفى زمن المماليك أصبحت محطة بريد بين مصر وغزة. وفى عام ١٩٤٨ نزح إلى دير البلح أعداد كبيرة من الفلسطينيين التابعين إلى لواء غزة والقليل من لواء اللد ويافا واستقروا على ساحل دير البلح.

وفى عام ١٩٦٧ وقعت دير البلح فى أيدى الاحتلال الإسرائيلى وأوقف خط السكك الحديدية واقتلعت القضبان الحديدية والأخشاب وبنت مكانها بيوتاً سكنية. وقد حررت المدينة عام ١٩٩٤ من الاحتلال الإسرائيلى بعد ٢٧ عاماً ودخلتها قوات الأمن الوطنى والشرطة الفلسطينية. وفى المدينة العديد من المعالم السياحية والتاريخية الشهيرة حيث تقع تلة أم عامر إلى الجنوب من معسكر البشيرات وهى تلة أثرية عثر فيها على أرضية فسيفسائية ملونة تعود إلى العصر البيزنطى. أما مقام الخضر فيقع وسط المدينة وأسفله يوجد دير القديس هيلاريوس الذى يعود للقرن الثالث الميلادى. ويوجد بها كذلك قلعة دير البلح التى أنشأها عمورى ملك القدس الصليبى، ومقبرة دير البلح حيث تشتهر المدينة بمجموعة من التوابيت المصنوعة على شكل إنسان ويعود تاريخها إلى العصر البرونزى المتأخر والمنسوب إلى ما يسمى بملوك الفلسطينيين حيث يعود تاريخ المقبرة إلى فترة القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أما تل الرقيس فهو موقع أثرى يقع على ساحل دير البلح مباشرة، حيث كشفت عمليات التنقيب التى جرت على التل عن وجود مستعمرة فينيقية كبيرة ومزدهرة فيها أسوار دفاعية ضخمة ومقبرة ذات طابع فينيقى لدفن رماد الجثث المحروقة التى يعود تاريخها إلى العصر الحديدى المتأخر وللفترة الفارسية. ومن أبرز المعالم التاريخية للمدينة مسجد الخضر والدير الصليبى ويقع على بعد حوالى ٢٠٠ متر جنوب مركز المدينة وقد شيد هذا المسجد فوق دير قديم لأن خطة المبنى وعناقيده المصلبة تذكّر بفن العمارة الصليبى، ويؤكد ذلك بعض النقوش اليونانية والتيجان والأعمدة الرخامية، وجدير بالذكر أن اسم المسجد منسوب إلى القديس جورجى وتعنى الخضر باللغة العربية وقد يكون هذا هو اسم الدير أيضاً. فلندعُ جميعاً أن يحمى الله دير البلح وأطفالها من ظلم الإسرائيليين وجبروت الفيتو.