الجينات تحدد مسار العلاج فى أمراض المناعة (1 - 2)

لا شك أن هناك العديد من الأمراض التى تندرج تحت اسم أمراض المناعة الذاتية، وسببها أن الجهاز المناعى يفشل فى التمييز بين العدو والحبيب، فيتلقى الإشارة الخاطئة، ويهاجم أعضاء الجسم نفسه على أساس أنها أعداء، ويعامله معاملة الأعداء ويهاجمه ويدمره مما يؤدى إلى مضاعفات خطيرة فى الجسم قد تنتهى فى بعض الأحيان بالموت، وقد يحدث هذا الخلل فى عضو أو أكثر من أعضاء الجسم، مما يتسبب فى حدوث مرض أو مجموعة من الأمراض سُميت بأمراض «المناعة الذاتية»، فإذا هاجم الجهاز المناعى المادة البيضاء فى المخ والنخاع الشوكى والأعصاب، وهى المادة المكونة للغلاف الميلينى المحيط بأعصاب الجسم كله، فإن ذلك يتسبب فى حدوث أعراض تتراوح ما بين التنميل وحتى الشلل، وهو ما يعرف بمرض تصلب الأعصاب المتعدد Multiple Sclerosis أو اختصاراً M.S، وإذا هاجمت خلايا الجهاز المناعى خلايا جزر لانجرهانز فى البنكرياس، فإنها تدمرها وبالتالى تعجز عن إفراز الأنسولين اللازم لحرق الجلوكوز مما يتسبب فى إصابة الشخص بالسكر من النوع الأول المعتمد على الأنسولين، وهو الذى يصاب به الأطفال والمراهقون. وقد يأتى هجوم الجهاز المناعى على مكان اتصال الأعصاب بالعضلات، مما يسبب ارتخاء العضلات فى الجسم كله، وهو ما يعرف بمرض Mysthenia Gravis، وقد يأتى أيضاً فى الغدة الدرقية فيتسبب فى إفراز كميات كبيرة من هرمون «الثيروكسين» السام فيما يسمى Grave's Disease الذى يؤثر على سائر أعضاء الجسم، أما إذا حدث الهجوم على البروتين المبطن للمفاصل، فإن ذلك يؤدى إلى حدوث التهابات الروماتويد التى قد تشمل بعض أعضاء الجسم الأخرى، مثل الجلد والكبد والكلى والطحال مثلما يحدث فى حالات الذئبة الحمراء، وقد يحدث هذا الهجوم على صمامات القلب أو الكلى كما فى حالات الحمى الروماتيزمية ويسبب مضاعفات خطيرة، وإذا حدث وهاجم الجهاز المناعى الجلد، فقد يسبب ذلك مرض «الصدفية» وأحياناً مرض «ذوالفقاعة» أو تصلب الجلد، ويمكن أن يهاجم الأوعية الدموية، فيتسبب فى حدوث جلطات فى أماكن مختلفة من الجسم أو حالات إجهاض متكرر لدى الحوامل. ولعلنا نتعجب إذا علمنا أن 5% من البالغين فى أوروبا وأمريكا الشمالية مصابون بأحد أمراض المناعة الذاتية الذى تحدثنا عن بعضها سابقاً، وثلث هذا العدد من النساء اللاتى يكثر عندهن مثل هذه الأمراض، وربما كان عندهن أكثر من مرض فى آن واحد، وفى أكثر من عضو من أعضاء الجسم. وكذلك فإن معظم أمراض المناعة الذاتية تتسبب ربما لأسباب مباشرة أو غير مباشرة فى الإصابة بتصلب الشرايين، الذى يتسبب فى نصف حالات الوفاة فى العالم الغربى. ولكن هنا يأتى السؤال الكبير ألا وهو: ما الذى يدفع الجسم للقيام فجأة وبلا إنذار مسبق بمهاجمة نفسه؟؟! وللإجابة عن هذا التساؤل المحير وُضعت العديد من النظريات المدعومة بالمشاهدات نذكر أهمها فيما يلى: أ- النظرية الجينية: على الرغم من أن مرض التصلب المتعدد لا يُعتبر مرضاً وراثياً، فإنه قد تم التـعـرف علـى العديد مـن الجينـات التـى قد ترتبـط بـالمـرض، ومن أشهرهـا الاختلافـات الجينيـة الموجودة على الكروموسوم السادس فى جينات مُستـضدات الخـلايا البيضاء البشرية دى آر2، دى 2، بى 7 وإيه 3 (human leukocytic antigen HLA DR2، D2، B2، A3)، وهناك أيضاً اختلافات فى الجينات المسئولة عن تصنيع بعض المـُستقبلات الموجودة على الخلايا، ومـن أشهرها مستقبلا إنترلوكين2 (Interleukin 2) وإنترلوكين7 Interleukin 7. وقد لوحظ أن نسبة الإصابة بين الأقارب من الدرجة الأولى تكون أعلى نسبياً من مثيلاتها بين عامة الناس (قد تصل إلى عشرين ضعفاً)، كما يلاحـظ أنه إذا أصيـب واحـد من التوأمـَين المتماثلين (identical twins) بالمرض، فإن هناك احتمالاً بنسبة 31% أن يصاب به الآخر، وهذه النسبة بالطبع أعلى بكثير من النسب الموجودة عند عامة الناس. ب- النظرية الجرثومية: وتفترض هذه النظرية وجود جرثومة ما (غالباً ما تكون فيروساً) تقوم بإحداث الاختلال المناعى الموجود. وتـُدعم هذه النظرية بالتحاليل المعملية التى تبين أن الأفراد المصابين بالمرض غالباً ما يوجد لديهـم -عند إجراء تحـاليل للـدم وللسـائل الشوكى المحيـط بالمخ- نـِسب عالية من الأجسـام المضادة لبعض الفيروسات مثل فيروس الحصبة (measles) أو فيروسات الهيربس (Herpes virus) أو فيروس إبشتاين بار(Epstein barr).. وغيرها. كما تم اكتشاف بعض الفيروسات الحيوانية التى تسبب -عند الحيوانات- أمراضاً عصبية يتم فيها تدمير الغشاء الميلينى، ولكن لم تُكتشف مثل هذه الفيروسات عند البشر بعد. ج- النظرية البيئية: التوزيـع الجـغرافى للمرض قـد يـُعـطـى دليلاً ما على العلاقة بيـن الظـروف البيئية كالطقس والتعرض لأشعة الشمس وبالتالى نـِسَب تكوين فيتامين د فى الجسم من نـاحية، وما بين الإصابة بالمرض من الناحية الأخرى.