مهاجرون غير شرعيين وتجار بشر ومنافقون

غرق المئات فى مياه المتوسط قبل أن يصلوا إلى وجهتهم فى أوروبا. مشهد العدد الكبير من الجثث الطافية على سطح الماء كان مروعاً. مشهد الأجساد الصغيرة لأطفال صغار بين القتلى كان الأكثر تأثيراً، وفى رأيى أن الأطفال فقط من بين كل من فقدوا حياتهم فى هذه المأساة هم من يمكن وصفهم بالضحايا. ماذا عن الكبار من الموتى، أليسوا ضحايا أيضاً؟ لدى شك كبير فى هذا، فهؤلاء أشخاص بالغون راشدون من الرجال والنساء، اختاروا تعريض حياتهم للخطر عندما قبلوا ركوب قوارب متهالكة، وعندما تجاهلوا ما يعرفه الكافة عن مخاطر ركوب البحر فى هذه الشروط، وعندما أصموا آذانهم عن أنباء حوادث مشابهة حدثت لبعض من سبقهم فى هذا الطريق، وعندما سلموا أمرهم لمهربين انتزعت من قلوبهم الرحمة لا يعنيهم من الأمر كله سوى ما يجمعونه من أموال. وعندما يقرر بعض المهاجرين تعريض أطفال صغار لا يملكون من أمرهم شيئاً لكل هذه المخاطر، فإن ما يفعلونه بهؤلاء الأطفال ليس أقل من جريمة تستوجب العقاب. ظروف الحياة فى البلاد التى أتى منها المهاجرون طاردة للبشر، ولكن الناس هناك يتحايلون على الحياة بأساليب مختلفة، فبعضهم ينأى بنفسه عن الصراعات محاولاً توفير سبل الأمن والحياة لنفسه وأسرته، وبعضهم الآخر ينضم للمكافحين من أجل تحسين الظروف فى بلدهم، أما المهاجرون فإنهم من ضمن الأقلية الصغيرة التى لم تفعل لا هذا ولا ذاك، وإنما قرروا الهرب نحو أوروبا، متخلين عن أهلهم وبلدهم، ومحاولين فرض أنفسهم على بلد آخر لم يدعهم ولا يرحب بهم. المهاجرون غير الشرعيين لا يأتون من بين الفئات الأضعف والأفقر فى بلادهم، فالواحد منهم يدفع ألف دولار على الأقل ليجد لنفسه مكاناً فى قاع واحد من قوارب الموت هذه، وهو المبلغ الذى يتضاعف عدة مرات إذا أراد المهاجر غير الشرعى أن يكون مكانه على سطح القارب، أو إذا كان القارب أكثر أمناً وكان عدد ركابه أقل. فإذا أضفت إلى هذا المبلغ تكلفة الوصول من قلب القارة الأفريقية أو من بنجلاديش إلى السواحل الليبية، وتكلفة الحياة لأسابيع طويلة انتظاراً لقارب يحملهم لمحطة الوصول، فإن التكلفة الإجمالية تصل إلى بضعة آلاف من الدولارات، ومن لديه هذا الفائض من المال فى بلاد يعيش أغلب أهلها بدولار أو اثنين فى اليوم لا يمكن اعتباره من المعدمين الذين تدفعهم الحاجة، وإنما من الطماعين الأنانيين الذين يريدون التطفل على ما أنتجته بلاد أخرى من حياة كريمة لشعوبها، تاركين وراءهم بنى جلدتهم لمصيرهم البائس. المقامرون من المهاجرين غير الشرعيين يقابلهم على الجانب الآخر من البحر المتوسط المنافقون من الأوروبيين، فهؤلاء يحاولون أن يقدموا أنفسهم للعالم فى صورة الرحماء الذين تتمزق نياط قلوبهم حرصاً على سلامة المهاجرين، ويعلقون المشكلة كلها فى رقبة عصابات تجار البشر من أصحاب ومشغلى قوارب الموت، وكأن مسئولية هؤلاء عن قواربهم تختلف عن مسئولية المهاجرين عن حياتهم وحياة أطفالهم. النفاق الأوروبى صريح وجلى، فلو كان فى قلوب الأوروبيين ما يدعونه من رحمة، ولو كانوا فعلاً يهتمون للإنسان، أى إنسان، مهما كان لونه أو جنسيته، لقاموا ببساطة بفتح أبواب الهجرة الشرعية للراغبين فيها بإجراءات تنظيمية ميسرة، وعندها لن يحتاج كل هؤلاء الناس لتعريض حياتهم لمخاطر الهجرة غير الشرعية، وعندها أيضاً لن يكون الوصول إلى أرض الأحلام الأوروبية مقصوراً على المقامرين من أبناء الدول الفاشلة فى جنوب العالم. الأوروبيون لا يفعلون أى شىء من هذا، ولكنهم يحكمون غلق أبواب السفر والهجرة الشرعية لبلادهم، وليس عليك سوى أن تجرب الحصول على تأشيرة دخول لبلد أوروبى لغرض الدراسة أو العلاج أو السياحة لكى تدرك بنفسك حجم الصعوبات التى ستوضع فى طريقك والشكوك التى تقابل بها، وكأن لسان حال أوروبا يقول إن حكوماتها سنضع أمامك كل العراقيل الممكنة لمنعك من الدخول إليها لتدفعك دفعاً للجوء لتجار الموت، فإذا نجوت من فظاظة وقسوة مهربى البشر، وإذا لم تبتلعك مياه المتوسط، فستحصل على حق اللجوء «الإنسانى» إلى القارة الغنية بعد فترة قصيرة تقضيها فى معسكرات استقبال المهاجرين. التخبط والنفاق الأوروبى هو نتيجة منطقية لمحاولة الأوروبيين ركوب حصانين فى الوقت نفسه، فهم من ناحية يحاولون حماية مصالح دولهم ضد المتطفلين الأغراب، فيما يرفعون شعارات حقوق الإنسان التى لا تعترف بحدود الدول ولا باختلاف الثقافات والجنسيات. حكومات أوروبا حريصة على مصالحها الوطنية، وهو ما لا تحب التحدث عنه كثيراً مفضلة إشهار سلاح حقوق الإنسان فى وجوهنا. مشهد حكومات أوروبا وهى تقوم بحركات بهلوانية للبقاء فوق ظهر حصانين يسيران فى اتجاهين متعارضين يبدو بائساً، فيما يتجنبون المعالجة الأخلاقية والمبدئية والسياسية للمشكلة. فحقوق الإنسان ليست مفهوماً معلقاً فى الهواء خارج أى إطار سياسى، ولكنها حقوق المواطن الذى يعيش فى بلد ولد فيه أو اكتسب جنسيته بطريقة شرعية. يصعب الحديث عن حقوق الإنسان خارج هذا الإطار الذى توفره الدولة الوطنية، على الأقل فى المرحلة الراهنة من تطور المجتمعات البشرية. أما الطريقة المناسبة لحماية مصالح الدول الأوروبية فهى تقوية الدول الوطنية فى أفريقيا وجنوب المتوسط، والمساعدة الجادة فى تحويلها إلى كيانات قادرة على توفير الأمن والتنمية والكرامة لمواطنيها. أما لماذا لا تتصرف حكومات أوروبا بهذه الطريقة، فلأن القيام بذلك يستلزم ضخ الكثير من الأموال لمساعدة مستعمرات أوروبا السابقة على النهوض، وهو ما تبخل أوروبا عن تقديمه، مفضلة رفع شعارات حقوق الإنسان منخفضة التكلفة.