إنجازات وزارة «مقاولى الرى»

قبل عدة أيام تبرع ثلاثة مقاولين بـ50 ألف جنيه لوزارة الموارد المائية والرى. واهتم الدكتور حسام مغازى بإرسال خبر التبرع «مشفوعاً بالشكر والثناء على هذا الاتجاه الوطنى» لكل الصحف والمواقع الإلكترونية. وقد حدث أن هذا «الخبر» ظل ليوم كامل يظهر لى كلما انتقلت من موقع إلكترونى إلى آخر، وفى اليوم التالى وجدته منشوراً فى العديد من الصحف المصرية. الخبر كما هو واضح قليل الأهمية، بل ربما كان شديد التفاهة ولا يستحق أدنى اهتمام أو ثناء أو تقدير، قياساً على شلال الأخبار والأحداث المهمة والخطيرة الذى ينهال على رؤوسنا فى الصحف كل دقيقة، ورغم ذلك فقد اعتبرت هذا «الخبر» نموذجاً للكوارث الممنهجة التى تعرقل مسيرة التقدم فى هذا البلد، وتدفع بنا جميعاً إلى مستنقع مفاسد سنحتاج إلى عشرات السنوات لكى نتخلص من آثاره المدمرة. والحكاية التى تتجلى فى ثنايا هذا الخبر هى أن هذه التبرعات التى وصفها الوزير بأنها «تدل على الحب والإخلاص لهذا البلد» هى عبارة عن تنازل من شركتَى مقاولات تعملان مع وزارة الرى عن جزء من مستحقاتهما لدى الوزارة، الشركة الأولى تنازلت عن 30 ألف جنيه، والثانية تنازلت عن 20 ألف جنيه، بالإضافة إلى تبرع آخر جاء من خارج هذه المنظومة قيمته 20 ألف جنيه دفعتها «أكاديمية تعليمية استثمارية» لاستكمال تطهير إحدى الترع فى محافظة القليوبية. (والواضح جداً أن هذه الأكاديمية تعبت من انتظار التطهير بواسطة شركات المقاولات التى تعمل مع الوزارة، فدفعت المبلغ حتى تتخلص من القاذورات التى تنغص حياة العاملين فى أحد فروع هذه الأكاديمية). ولكن ما العيب فى أن يتنازل عشرات المقاولين الذين يعملون مع وزارة الرى فى إحلال وتجديد وتطهير شبكات وقنوات الرى عن جزء من مستحقاتهم؟ أليس هذا عملاً يستحق التشجيع والإشادة بدلاً من التشكيك فى كل شىء حتى لو كان عملاً خيرياً؟ والإجابة التى تفقع عيون كل من له عيون، وكل من يعرف حقيقة أحوال الإحلال والتجديد والتطهير لقنوات وشبكات الرى فى عموم مصر هى أنه لا تطهير ولا تجديد ولا شىء على الإطلاق من هذه الأكاذيب يشعر به مواطن واحد فى هذا البلد، أما سكان العاصمة الذين قد يخيل عليهم هذا الكلام، فبإمكانهم أن يشاهدوا بأنفسهم حالة ثلاث ترع كبيرة تخترق العاصمة الكبرى هى المريوطية والمنصورية والزمر، وسوف يكتشفون أنها تحولت إلى قنوات صرف صحى، وإلى مستودعات قمامة منازل وتشوينات هدم. والمفجع فى الأمر أن موازنة تطهير وصيانة هذه الترع الثلاث تصل سنوياً إلى عشرات الملايين من الجنيهات، تذهب إلى جيوب شركات مقاولات القطاع الخاص التى تقوم بالتطهير على الورق فقط، وتتمكن عادة من تستيف أوراق إتمام الأعمال المسندة وصرف الشيكات المستحقة، بعد دفع المعلوم طبعاً. باختصار شديد، لدينا عشرات المقاولين الذين يعملون مع وزارة الرى فى هذا المجال شديد الأهمية لاقتصاد مصر، ومعظم الأعمال المسندة إليهم لا تتم إطلاقاً، أو تتم بطريقة صورية وغير مكتملة، وإذا علمنا أن موازنة التطهير والإحلال والتجديد تصل سنوياً إلى أكثر من مليار جنيه، وأن كل شبكات الرى فى كل المحافظات لا يتم تطهيرها ولا صيانتها إلا بواسطة الفلاحين أنفسهم، فإننا نصبح أمام أعظم عملية نصب وفساد تتم فى هذا البلد منذ أكثر من عشرين عاماً، وما زالت مستمرة ولكنها اكتسبت بعداً جديدا يتمثل فى تنازل شركات المقاولات عن بعض الفتات من مستحقاتها التى لا تستحقها لصندوق حماية النيل فى وزارة الرى، وأن يخرج الوزير ليوجه لهم الشكر والثناء على هذا الإخلاص للبلد. الجريمة العظمى فيما يحدث لا يمكن إدراكها دون الحديث عن الوجه الآخر للكارثة، وهو وجه يعرفه جيداً كل من انتبه للإضرابات المستمرة للعاملين بشركات الرى والصرف المملوكة للقطاع العام والتى تصل إلى 6 شركات، كل شركة منها تستطيع أن تنجز بمفردها فى عام واحد أضعاف ما أنجزته شركات المقاولات الخاصة فى سنوات، وبأسعار أقل كثيراً من الأسعار التى يحصل عليها القطاع الخاص، بل إن بعض الشركات العامة هذه التى تعانى من انعدام الأعمال المسندة إليها يعود إليها فضل حفر وتبطين معظم شبكة الترع والمصارف فى مصر، بداية من القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن الحادى والعشرين، ولكن منظومة الفساد المتأصلة فى الجهاز الإدارى رأت، وما زالت ترى، أننا لسنا بحاجة إلى هذه الشركات العامة، لأنها من الأساس لا تملك دفع رشاوى للقائمين على إسناد الأعمال. إنها جريمة مركبة، ولكنها شديدة الوضوح، وإذا كان الوزير يتباهى بأن مقاولى القطاع الخاص الذين يعملون مع وزارته تنازلوا حتى الآن عن 5٫3 مليون جنيه من مستحقاتهم، فإننى أتوقع أن يستمر الوزير ورجاله فى إسناد كل ما لديه من أعمال لهؤلاء المقاولين الذين «يحبون الوطن»، وأن يستمر فى حرمان شركات الرى والصرف العامة من أى أعمال لأنه، مثل الوزراء الذين سبقوه، اكتشف أن الشركات العامة لا تحب الوطن!