جماعات الإسلام السياسى وظاهرة السراب

نادين سعد

نادين سعد

كاتب صحفي

كتاب «السراب» هو ثانى عمل ضخم يصدره جمال سند السويدى مدير مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية فى غضون عامين بعد كتابه عن «آفاق العصر الأمريكى» الذى انتهى فيه إلى أن الولايات المتحدة ستظل هى موطن التأثير السياسى الأهم فى النظام العالمى. وفى الكتاب الجديد يواصل المؤلف استشراف المستقبل، لكن هذه المرة من خلال التطبيق على وطننا العربى وبمعالجة واحدة من أبرز الظواهر الحاكمة لتطوره، وهى ظاهرة جماعات الإسلام السياسى. يعتبر المؤلف «أن حال من ظنوا فى الجماعات الدينية السياسية خيراً كحال من خُدع بظاهرة السراب التى يخيل للناظر أنها شىء وهى ليست بشىء»، ومن هنا استمد الكتاب عنوانه واستبق خاتمته التى تعتبر أن هذه الجماعات لا أفق لها. لكن السراب ليس فقط نصيب المراهنين على وهم زائل، لكنه أيضاً وصف للبضاعة التى تروّج لها هذه الجماعات التى تتجاهل حقائق العالم الذى تعيش فيه، بل تتجاهل واقعها هى نفسها، ولا أدل على ذلك من ترويجها لتأسيس «دولة الخلافة الإسلامية» فيما تمزق الصراعات الجماعات الدينية. محور الكتاب الذى تتوزّع صفحاته على أربعة أبواب هو إثارة السؤال التالى «لماذا استطاع الغرب فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى فصل الدين عن السياسة، بينما نرى فى العالمين العربى والإسلامى وفى القرن الخامس عشر الهجرى إصراراً ومحاولات دؤوبة من الجماعات الدينية السياسية لاستغلال الدين من خلال مزجه بالسياسة لتحقيق مآرب حزبية وشخصية؟ وهل تكون هذه المسافة الزمنية الفاصلة بين ماضى الغرب وحاضر العرب والمسلمين هى المسافة نفسها التى تفصل بين الحضارتين الغربية والإسلامية لتتحول بلداننا من مصدر إشعاع علمى للعالم إلى الانكفاء على الذات والاقتتال الداخلى؟ فى إجابته عن هذا السؤال يمد المؤلف خطوط الشبه بين سلطة رجال الكهنوت فى العصور الوسطى بنتائجها الكارثية على العالم، وبين سلطة أمراء جماعات الإسلام السياسى الذين يأخذون بعموم النص، ويتجاهلون خصوصية القيد الزمنى خدمة لمصالحهم السياسية. ويحذّر المؤلف من أن ظلامية العصور الوسطى أدت لاحقاً -وكنوع من رد الفعل المضاد- إلى إزاحة الدين من الحياة بالمطلق. ويستشهد المؤلف فى هذا السياق بالتجربة الفرنسية التى طبّقت العلمانية بشكل متطرّف، ويقارنها بتجارب أخرى أكثر اعتدالاً، كالتجربة الأمريكية مثلاً التى لم تحل دون وصول رؤساء متدينين إلى السلطة، لكن من دون زج بالدّين فى السياسة. ولما كان تحليل أداء جماعات الإسلام السياسى هو صلب الكتاب كان لا بد أن يرسم المؤلف خريطتها فى الباب الثانى. وهكذا تطرق «السويدى» إلى جماعة الإخوان المسلمين كأكبر وأقدم التنظيمات الدينية فى الوطن العربى، فحلل نشأتها وأفكارها وأدواتها وتوقف أمام خبرتها فى حكم مصر، مما وضع كل الشعارات التى كانت ترفعها على المحك. كانت تجربة عام من حكم الإخوان كاشفة، ليس فقط للمستور من أمر هذه الجماعة، لكن أيضاً لخصائص كل التنظيمات المشابهة من انغلاق على الذات، وغياب تجديد الفكر، وعدم طرح حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والتعصّب وإقصاء الآخر المختلف فى الدين، والجهل بطبيعة النظام الدولى. ومن الإخوان المسلمين انتقل «السويدى» إلى الجماعات السلفية وحلّل علاقتها بالوهابية والتقاطعات الفكرية بين الجانبين، كما تناول أيضاً حدود الاتفاق والاختلاف بين الفكر السلفى والفكر الإخوانى من جهة، وفكر جماعة السروريين من جهة أخرى. فحسب المؤلف فإن السرورية لم تكن سوى محاولة للتوفيق بين أفكار يصعب التوفيق بينها، كما فى دعوتها إلى تكفير الحاكم عبر مبدأ الحاكمية، وفى الوقت نفسه تسامحها مع فكرة المشاركة السياسية فى نظام الحكم، وبسبب هذا التناقض ضعفت الحركة وانحسر تأثيرها. ثم تحول المؤلف إلى تنظيمات العنف الدينى، فعدّد أسباب ظهورها وانتشارها، ومنها نكسة يونيو ١٩٦٧ وسياسة «السادات» فى ضرب الشيوعيين بالتنظيمات الإسلامية، وتجربة الحرب فى أفغانستان وقيام الثورة الإيرانية، كما استعرض «السويدى» الخلافات الفكرية بين تنظيمات العنف الإسلامى واتخاذها السلاح أداة وحيدة لحسم تلك الخلافات. وأخيراً توقف «السويدى» أمام حركات التحرّر الوطنى ذات الخلفية الدينية كحركة حماس وحزب الله، واستعرض تجربتها السياسية فى الحكم، وأثر ذلك على قضيتها المركزية وهى تحرير الأرض. أما الباب الرابع، فقد خصصه المؤلف لعرض نتائج دراسة ميدانية أجراها فى دولة الإمارات على كل من المواطنين والمقيمين لمعرفة اتجاهات الرأى العام بخصوص جماعات الإسلام السياسى. وكشفت الدراسة عن أن أغلبية المستطلع آراؤهم كانوا يحبّذون فصل الدين عن السياسة. كما أوضحت الدراسة الاختلاف بين أولويات هؤلاء، وعلى رأسها الاقتصاد، وبين أولويات جماعات الإسلام السياسى. ثم يأتى الباب الرابع ليكون خاتمة الكتاب، وبعد أن ينتهى إلى أن جملة الخصائص التى تميّز جماعات الإسلام السياسى تجعلها بلا مستقبل، فإن هذا الحكم مشروط بتوافر البديل المدنى الذى يتبنّى رؤية تنموية شاملة، ويهتم بالاجتهاد الدينى والفقهى. إن هذا الكتاب يدعو، دون مواربة، إلى فكرة إبعاد الدين عن الساحة السياسية، وذلك على خلاف كثير من الكتب والأطروحات الأخرى التى تدور حول الفكرة، ولا تدخل إليها مباشرة، فوضوح الهدف يُحسب لصاحبه. لكن الوصول إليه يحتاج إلى عملية تنشئة اجتماعية تستمر سنين طويلة، ولا ننسى أن التنظيمات التى تناولها الكتاب ركزت على تربية أجيال جديدة تعتنق أفكارها، بل ترفع سلاحها. الأمر الثانى هو تركيز الكتاب على البيئة الداخلية المنتجة لجماعات الإسلام السياسى، ولا أحد ينكر أهمية الداخل، لكن الخارج ضالع، وأحياناً منشئ لبعض أخطر هذه الجماعات. وأخيراً كنت أفضّل لو ركز التحليل على جماعات الإسلام السياسى فى الوطن العربى، لأن التطرّق إلى التجربة التركية لم يأخذ حقه وهو ليس مطلوباً إلا بقدر ما تستلهم بعض الجماعات نموذج «أردوغان». فى كل الأحوال ستظل الفكرة التى طرحها كتاب «السراب» جديرة بالمناقشة على أوسع نطاق، فعليها يتوقف تطور المنطقة، وسيظل الجهد الضخم للمؤلف إضافة بالغة الأهمية.