في شهر رجب.. معارك حرم النبي القتال فيها

في شهر رجب.. معارك حرم النبي القتال فيها
يقول الدكتور عصمت رضوان، أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع سوهاج، إن تحريم القتال في رجب جاء من تحريمها في الأشهر الحرم لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها.
والقتال الظلمُ محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنُسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأشار رضوان إلى أن القتال في الأشهر الحرم نوعان:
الأول: قتال دفاع، وهذا جائز بإجماع أهل العلم، وتناول هذا الإجماع أكثر من واحد من أهل العلم.
والثاني: قتال هجوم، وجمهور أهل العلم على جوازه سواء ابتدأ فيها أو ابتدأ قبلها، قالوا: وتحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقول تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، التوبة 5.
وأكد رضوان أن غزو النبي صلى الله عليه وسلم، الطائف في الأشهر الحرم، وذهب بعض أهل العلم إلى حرمة القتال هجومًا في الأشهر الحرم إلا أنه حرم القتال في الأشهر الحرم وهو ما نتعرف عليه خلال الموقفين اللذين حدثا في عهد النبي في شهر رجب ورفض النبي صلى الله عليه وسلم القتال في هذا الشهر الحرام، ونبدأها بالتالي:
الموقف الأول: حرب الفجار
شارك النبي محمد أهل مكة في الدفاع عن مدينتهم في "حرب الفجار" بين قريش وهوازن والتي استمرت أربع سنوات كان عمر محمد في بدايتها خمسة عشر عامًا وسببها أن النعمان بن المنذر أراد يعيِّن قائدًا لقافلة تجارية من الحيرة إلى سوق عكاظ فعرض كل من البراض الكتاني وعروة الهوازني فاختار النعمان عروة فقتله البراض، وسمعت قريش وأدركت أن (هوازن) قبيلة عروة لا بد أنها ستثأر لرجلها، ووقع القتال بين الفريقين وكان في الأشهر الحرم وهو شهر رجب، وتراجعت قريش حتى دخلت الحَرَم فوعدتهم هوازن الحرب في العالم المقبل وظلت هذه الحرب تجدد طوال أربع سنوات في انعقاد سوق عكاظ، ثم انتهت بالصلح بين الفريقين على أن تدفع قريش ديَّة من يزيد عن قتلاها لهوازن فكانوا عشرين رجلًا، وسُمِّيت هذه الحرب بـ"حرب الفُجَّار" لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهو الفجار الرابع في تاريخ مكة.
ويروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال في حرب الفجار: "كنت أنبل على أعمامي (أي أجمع نبل عدوهم إذا رموهم بها) وقال في حديث آخر: قد حضرتها (حرب الفجار) مع عمومتي ورميت فيها بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت".
وأوضح رضوان أن المؤرخين اختلفوا في كيفية مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل بجمع النبل؟ أم بالرمي؟ ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم، مارس العملين فإن الحرب استمرت أربعة أعوام كان عمر الرسول في بدايتها خمسة عشر عامًا وهي لا تمكنه من الرمي فساهم بجمع النبل، وفي نهايتها كان على أبواب العشرين ربيعًا فتمكن أن يساهم برمي النبل.
أما الموقف الثاني هو سرية عبد الله بن جحش:
كان في رجب من السنة الثانية من الهجرة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش الأسدي في عدد قليل من المهاجرين قيل ثمانية وقيل اثنا عشر، وكتب له كتابًا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ويمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدًا ففعل حتى إذا فتح الكتاب وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخله بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم"، وعلم الصحابة بالأمر وبأنه لا يكره أحدًا منهم فمضوا معه جميعًا لم يتخلف منهم أحد ويفهم من توجيه الرسول أن السرية كانت للاستطلاع ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بقتال لكن حدث أن رجلين من رجال السرية هما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان تخلفا عن الركب لأن البعير اللذين كانا يركبانه قد ضل فانطلقا يبحثان عنه فأسرتهما قريش.
وتصادف أن مرت بهم عير لقريش (قافلة تجارية) تحمل تجارة وذلك في أواخر رجب فحدث تصادم لم يتمكن عبدالله بن جحش من تلافيه وأسفرت المعركة عن سقوط قتيل واحد وأسيرين من المشركين عاد بهما عبدالله بن جحش مع القافلة إلى المدينة ومعهم بعض ما أخذوه منهم من أموال.
وقال عبد الله لأصحابه باجتهاد منه إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله من الغنائم الخمس فاختص لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون وأول خمس في الإسلام.
ولما كان القتال وقع في شهر رجب وهو شهر حرام، فلامهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدموا عليه في المدينة وقال لهم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وأوقف التصرف في الأموال واحتجز الأسيرين، وعاتب المسلمون عبدالله وأصحابه وعنَّفوهم فيما صنعوا وقالوا لهم: "صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم يؤمروا بقتال".
وهنا وجد المشركون واليهود فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم أحلوا ما حرم الله وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك نزل الوحي يؤيِّد مسلك عبدالله وصحبه، قال تعالى: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌ عَن سَبيِلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" البقرة 217.
وأشار رضوان إلى أن العلامة ابن القيم الجوزية قال في زاد الميعاد: "والمقصود أن الله سبحانه و تعالى حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والأنصاف ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام بل أخبر أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة لاسيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك أو مقصرين نوع تقصير يغفر الله لهم في ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، وكانت السرية درسًا بليغًا للمشركين أظهر لهم أن المسلمين أصبحوا خطرًا على تجارتهم التي يعتمدون عليها كل الاعتماد وأنهم يزدادون مع كل يوم صلابة وقوة.
وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسيرين عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ففداهما الرسول بصاحبيه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فأما الحكم فقد شرح الله صدره للإسلام فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرًا.