المصحف فى بيوتنا: ديكووور

المصحف فى بيوتنا: ديكووور
تصدح آيات الذكر الحكيم فى المنزل، إنها إشارة بدء اليوم، يهم الرجل بمغادرة فراشه، لكن بعد أن يتحسس وسادته، ويطمئن إلى وجود مصحفه أسفلها، يقبله بين يديه ثم يعيده إلى موضعه، يغادر الفراش وهو يستمع إلى التلاوة التى اعتادها فى منزله كل صباح، صادرة عن إذاعة القرآن الكريم، يقف أمام مرآته يهندم زيه، وأمامه مصحف تراكمت فوقه الأتربة، ينهر زوجته بصوت مسموع: «ابقى نفضى المصاحف أول بأول، ده كلام ربنا ولازم نحافظ عليه»، ينزل سلم منزله وهو يردد ما تيسر من آيات الرزق والسعى والحماية من الحسد وشر الطريق، رصيده المحفوظ منها لا يزيد على سور «الفلق والإخلاص والناس»، دقائق تفصل بينه وبين 12 ساعة عمل متواصل، تضطره حيناً إلى نميمة، وأحياناً إلى ممارسات نهى عنها القرآن، كسب الدهر وسب الدين.
يرافق القرآن «محمد الشناوى» أحد موظفى مصنع كيماويات بمنطقة شبرا، طوال الطريق من منزله إلى مقر عمله والعكس، لا يتخلى عن سماعات الراديو، يستمع إلى آيات الذكر الحكيم، لديه طقوسه: «مش برضى أركب أى عربية أجرة لا تشغل كلام الله»، مفهوم «محمد» عن المصحف قاصر على الاستماع، والدليل على هذا، مصحفه المعفر بتراب «الركنة» فى منزله، يبرر الأمر: «اعتدت من صغرى أن أسمع إذاعة القرآن الكريم، والدى كان بيقولى اللى يسمع كلام ربنا على طول، ربنا بينور له طريقه، وبقت عادة فى حياتى».
لا يتذكر الشاب الثلاثينى كم عاماً هجر فيه القرآن على وجه الدقة، حاجته للمصحف تقتصر على شهر رمضان: «ما بقراش من المصحف غير من رمضان لرمضان اللى بعده»، يتعلل «محمد» بانشغاله دوماً وكونه لا يستطيع التوفيق بين المواظبة على تلاوة القرآن والعمل وتدبير شئون حياته، أسرة «محمد» بدورها، وبينها الزوجة «هالة» دأبت على القول بقناعة إن كلام الله به قدرة هائلة على درء الحسد والهم والحزن وجلب الرزق، تتذكر منذ صغرها عدم تفويت أى من الحلقات الدينية، تدير الراديو أو التليفزيون على صوت القرآن، وتستمع إلى المصحف المرتل عبر هاتفها المحمول، بحسبها: «مش بصلى ولا عمرى صليت، لكن حافظة قصار السور والآيات وبعض الأحاديث النبوية، وربنا غفور رحيم»، تكررها من حين لآخر، لتقنع نفسها بأن باباً للتوبة والمغفرة يفتحه لها الاستماع للقرآن، دون أن تهتم بالشرط الثانى فى الاستماع وهو التدبر.
اهتمامات «مصطفى رياض» فى وقت فراغه، لا تزيد على لعب كرة القدم بالأحياء الشعبية المجاورة لمنزله بالتوفيقية أو التنزه مع رفاقه، ورغم كونه أحد الدارسين بالأزهر الشريف منذ نعومة أظافره وتربيته فى عائلة أزهرية فإن معظم آيات القرآن لا يدرك معناها، بصعوبة بالغة يفهم المعنى، حسبما يسمع من أساتذته بالمعهد: «أبويا وجدى ومعظم عيلتى درسوا فى الأزهر علشان كده دراستى للقرآن والشريعة والفقه أصابتنى بالملل، لأن والدى يحتفظ بأمهات الكتب فى هذا المجال ويجبرنى على قراءتها كل يوم».
«أمل برعى» سيدة خمسينية، كل علاقتها بكتاب الله، تبدأ حين قدوم شهر رمضان، تحرص على ختم تلاوته، لديها ذكريات مع القرآن، كانت إحدى المحفظات بقريتها «سيلا» فى الفيوم، كُتاب القرية كان سلواهم الوحيدة عن أماكن لا يملكونها، مثل دور عرض السينما والمسارح والملاهى، لذا حين تحررت من قيود القرية وقدمت إلى القاهرة، خلعت غطاء رأسها، وتمسكت بحياة المدينة، وباتت بعيدة عن قراءته ومطالعته مثل سابق عهدها.[FirstQuote]
«متحررة فى أفكارى وحافظة كلام ربنا» عبارة لا تغيب عن بالها، على تناقضها تؤمن بها، فهى تخطت العمر الذى لا تستطيع فيه التمييز بين الخطأ والصواب، بحسب «أمل»: «أولادى كمان إديتهم دروس فى الدين وحفظ القرآن رغم إنهم كانوا فى مدارس راهبات»، احتفظت «أمل» بجوهر حياتها، حفظ القرآن وسيلة وليس غاية فى حد ذاته، وقت القراءة خصصت له ساعة أو ساعتين على الأكثر كل أسبوع مع ضرورة ختمه مرة سنوياً، على الأغلب فى رمضان.
صلة «أسامة عبدالمنعم» بائع المصاحف بحى الأزهر، بكتاب الله، لا تتجاوز المحل الذى يقف فيه، سنوات عمره الأربعين عاش فى كنف عائلته التى ورثت المهنة أباً عن جد، يحفظ من قصار السور آية الكرسى والمعوذتين، السور التى تعينه على الصلاة والمواظبة عليها، يستمع إلى صوت القرآن فى سرادق العزاء وبعد صلاة الفجر، وإذا ألم به تعب، يحرص على التمتمة ببعض الآيات مثل آية الكرسى وبعض من سورة يّس، يستريح بعدها من الضيق.
يحتفظ الرجل الأربعينى بين صوره ومذكراته بمصحف صغير مزركش مطلى بصورة لافتة للأبصار، لا يغيب عن أى مكان يحل به: «دى هدية أمى الله يرحمها، نصحتنى يكون معايا على طول، تحت وسادتى، أمام عينىَّ بالمكتب، علشان تحفظنى من أى سوء، ومن وقتها مش بيفارقنى أبداً»، لا يرى «أسامة» فى حفظ القرآن مشقة، لكنه يعتبر أن تلاوته والعمل به لهما جدوى أكبر: «علشان ربنا يرضى عنى، بصلى وبصوم، كلام ربنا بحاول أطبقه قدر المستطاع، لكن الإنسان خطاء بطبعه، وربنا بيسامح لأننا مش ملايكة».
هدايا الأصدقاء لا تخلو من مصاحف محمولة على أرفف مكتبته المنزلية، «محمود أسامة» يتبادل الهدايا بالمصحف: «اتعودت أشترى مصحف كل فترة من مصر، وأخليه فى البيت احتياطى لأى مناسبة»، الشاب العشرينى درس فى الأزهر حتى المرحلة الجامعية، ورغم ذلك وبحسب وصفه لا يطيق التبحر فى علوم الدين والتفسير، «لأن معظم رجال الدين فى عصرنا أثقلوا علينا بهموم الدنيا»، يتطلع «محمود» إلى أن يطبق كلام الله فى حياته: «انشغالى فى الدراسة بيخلينى مش بطبق كلام ربنا فى حياتى زى أيام الطفولة، لكن بحاول أبعد عن الكدب والغش وخلافه من الأفكار الشيطانية لمن هم فى نفس عمرى». «ليندا عصام» تخطت الـ16 عاماً ببضعة أيام، لم تمس القرآن فى حياتها، سوى فى حصة الدين الإسلامى، تتعاطى معه كمادة دراسية، يلزمها النجاح فيه بمجموع درجات، يزحزحها عن الرسوب، بحسبها: «رحت مقرأة حفظت بعض السور، لكن التطبيق العملى صعب»، بعض رفاقها يغرين الفتاة بحفظ القرآن فى دروس بمسجد ملحق بمدرستها، «حفظ القرآن مش للمنظرة»، تتحدث الفتاة التى تعلق فى رقبتها سلسلة ذهبية على هيئة مصحف يعتليه لفظ الجلالة، لا تفارقها فى أى مناسبة: «لو شكل مصحف عجبنى بشتريه، وما يمنعش أشارك فى توزيعه على زملائى وزميلاتى فى المدرسة».
«المصحف يشكل جزءاً كبيراً من تجارتى بعد التخرج من الجامعة، وفشلى فى الحصول على عمل» يتباهى أشرف حجازى، فالشاب الذى لم يتم الـ25 ربيعاً، لا يقبل الحديث عن تجارة فى كلام الله: «أنا كمان بقرأ قرآن بس فى وقت فراغى بس».
«بنظم دروس دينية فى مساجد المحافظات»، تقول «سارة محمدين»، واحدة ممن هجرن القرآن فترة من الزمن، فجأة انقلبت حياة الفتاة العشرينية رأساً على عقب، بوفاة والدها فتحولت إلى حث جيرانها على المشاركة فى دروس الدين التى تنظمها: «لاحظت أن المصاحف بقت للزينة، والتباهى والهدايا، كان لازم أعمل مبادرة اسمها «مصحفى هو حياتى»، تمكنت «سارة» بهذه الطريقة من جذب عدد من الشباب أيضاً إلى حلقات الحفظ والتفسير.