«الفكة» فى مطار القاهرة الدولى
أن تذهب إلى كشك سجائر وحلويات وتعجز عن شراء باكو لبان أو زجاجة مياه لأنك لا تحمل جنيهين «فكة»، فهذا أمر طبيعى فى ضوء انهيار منظومة الحقوق وتوحش منظومة الحريات (بالمفهوم الشعبى). وأن تتوجه إلى عربة فول لتضرب طبق فول بالزيت الحار أو سندوتش طعمية بالسلاطات، فيكاد صاحب العربة يلقى بالطبق فى وجهك ويرزع الخبز على يمينك، فهذا أمر وارد فى ضوء تفتت إطار العيب وتجذر مفهوم الحرام، وحيث إن شيخ الزاوية لم يُفتِ بحرمانية إلقاء الطبق فى وجه الزبون أو رزع الخبز طالما على يمينه، فلا ضرر. وأن تستقل «تاكسى» ويدّعى السائق أن العداد معطل، أو أن ابنه فى حضانة، أو أن زوجته فى الإنعاش، أو أن أباه يغسل كلى، أو أن أمه تزرع كبداً طمعاً فى ابتزاز عواطفك أو اعتصار محفظتك، فهذا أمر معروف فى ضوء تحلل قيم الكرامة وتبدد بديهيات عزة النفس. أما أن توجد فى صالة السفر فى مطار القاهرة الدولى، حيث واجهة مصر وعنوان التحضر وسبيل كسب ثقة السائح وجذب المزيد من السياحة، فتتوجه إلى المكتبة الوحيدة الموجودة لتشترى جريدة، فيخبرك موظف البيع دون أن يرفع نظره بأن «لو ممعكش جنيه ونص فكة مش هينفع»، فهذا أمر مشين ومقرف ومُخزٍ. وأن تناقشه فى موقفه من «الفكة» فى مطار دولى، ورؤيته التى يمكن أن تؤثر على سمعة بلد، ومنظوره الذى قد ينال من مكانة شعب، وتصرفه الذى قد يعطى شعوراً لدى الزائرين بأننا متبلدون لا سمح الله، أو متحجرون حاشا لله، أو لدينا ميول انتحارية للقضاء على ما تبقّى لدينا من يابس بعد ما أجهزنا على الأخضر، وهو فى حكم المؤكد. المؤكد أن عطباً ما أصابنا لدرجة أن يرد الموظف إياه على جدال «الفكة» بقوله «وأنا مالى» ثم «وإيه يعنى لو ما عنديش فكة؟!»، ويرد على مقترح أن يطلب من الجهة المالكة للمكتبة بتزويده بمبلغ من الجنيهات المعدنية بتأكيده أنه سيترك العمل فوراً لو أضيف للعهدة مبلغ 200 جنيه «فكة»، لأن هذا سيزيد عبء العمل الملقى على كتفيه «إذ ليس من المعقول أن يعد 200 جنيه فكة»! وحيث إنه من غير المعقول أن يستمر حوار بهذه الوتيرة المثيرة للغثيان، فلو كان هذا هو موقف الموظف المختار بعناية فائقة ومخمخة غائرة ليكون واجهة البلاد والعباد ونقطة جذب للسياح ومجال تفاؤل للزائر أول مرة وساحة بهجة للزائر غير مرة، وليس «بوز إخص» يظلم يومك وواجهة مشينة تجعلك تضرب أخماساً فى أسداس فى شأن مستقبل البلاد فى هذه الأيام الصعبة التى تقلق القاصى والدانى. هذا الموظف، وغيره كثيرون جداً، يشكو حاله ويندب ظروفه ويندد بكل ما حوله لضيق ذات اليد، لكنه أبداً لم يفكر يوماً فى أنه شخصياً، وأولوياته المقلوبة، وقناعاته المأزومة، وفصامه الواضح، سبب رئيسى ومباشر للخيبة القوية التى أصابتنا والردة الشديدة التى ضربتنا والرغبة الأكيدة التى تكمن فى مكان ما فى عقل الملايين فى أن يظهر «مستريح» أو يتجلى «ريان» أو يتبدى «شريف» يحقق لهم حلم اكتناز الملايين بينما يجلسون رجلاً على رجل. اعتياد استلاب الحقوق البديهية، وارتضاء الـ«قرطسة» الشعبية، واستمراء انعدام الكرامة، وإدمان الذل والهوان، واعتبار العمل عبئاً ثقيلاً لدرجة بذل الجهد العاتى لمضايقة الزبون أو التضييق على العميل أو إرسال رسالة بلغة الجسد إلى المتعامل معه أنه لا يطيقه، أو لا يستظرفه، أو لا يستوعبه، كلها من مظاهر ميل شعبى واضح للانتحار البطىء.