بالفيديو| في ذكرى ميلاده.. "الوطن" تعيش "الشهد والدموع" ببيت "الشريعي"

بالفيديو| في ذكرى ميلاده.. "الوطن" تعيش "الشهد والدموع" ببيت "الشريعي"
- الموسيقى التصويرية
- حديث الصباح والمساء
- عمار الشريعي
- الموسيقى التصويرية
- حديث الصباح والمساء
- عمار الشريعي
- الموسيقى التصويرية
- حديث الصباح والمساء
- عمار الشريعي
- الموسيقى التصويرية
- حديث الصباح والمساء
- عمار الشريعي
ستائر حجبت ضوء الحياة عن الغرفة، وكأنها تنعى صاحبها في العالم الآخر، وتبكي رحيله، تناديه في كل وقت، وتستدعي روحه من الظلام، لحظات وتعود البهجة، يزيح ضوء المصباح الغمة، فينكشف عالم آخر، حوائط تبتهج بصوره الضاحكة، وأرائك ترحب بمجلس ساكنيها، أوتار عود تفتقد لمسته، وتتشوق لريشته، تتمنى أن يعود إليها، آلات موسيقية في حقائبها السوداء تريد العودة للحياة، رفيق عمره "الأورج" يقبع منزويًا حزينًا في أحد الأركان، ينتظر عزف أصابعه الذهبية على مفاتيحه، ولمساته الموسيقية الساحرة، آلات جامدة ولكنها وفية لذكرى صاحبها "عمار"، فتوقف نبضها مع مفارقة الروح الجسد، لتصبح الشاهد الباقي على حياة "غواص بحر النغم"، التي تشتم فيه رائحة إبداعاته، في مجلس ذكر يسترجع فيه الرواة من أهل بيته شريط الزمن ليعزفون مع الآلات سيمفونية اسمها "عمار الشريعي".
في داخل ذلك الركن الخاص من منزله، جلست الإعلامية "ميرفت القفاص"، رفيقة درب "عمار"، تحتضن زهرة عمرهما "مراد" ليغوصا معًا في بحره العميق، يقطفان لآلئ ذكرياته الجميلة ليجمعاها في عقدٍ بديع من الحب والوفاء، يقدمانه هدية له بمناسبة عيد ميلاده الذي لم يفقد رونقه رغم عامين من رحيله، فلم تنس الزوجة ذلك المشهد الذي تكرر كل عام على مدار حياتهما الطويلة معًا، الوافدون يدخلون الواحد تلو الآخر، والبيت الفسيح لم يعد به موقع لقدم، وصاحب الحفل يكتفي باستقبال المهنئين الذين حضروا دون استئذان، "عمار كان دايمًا حريصًا على وجود صحابه في عيد ميلاده لكن عمره ما عزم حد، صحابه هما اللي كانوا بيفتكروا كل سنة وييجو عشان يحتفلوا بيه معاه، لدرجة إننا في اليوم ده مكناش نبقا عرفين اللي هيتعشوا معانا عددهم كام، وكنا بنعمل عزومة تكفي أكبر عدد من أصدقائه، وكان بيحاول يعمل كل حاجة عشان يخلي كل اللي حواليه سعدا".
الشجن كان السمة التي طغت على صوت الإعلامية "ميرفت القفاص"، أثناء محاولتها استعراض جانب من ذكرياتهما معًا، فهو لم ينطق يومًا بكلمة أوجعتها وقلبه لم يكف حنانه عن غمرها، "عمار عايش معاية طول السنتين اللي فاتو دول، فاكرة كل كبيرة وصغيرة من كتر ما حياتنا كانت كلها حلوة، حتى الخلافات الزوجية العادية عمرها ما كانت توصل إنه يعلي صوته، كان راجل نادر عمره ما يتعوض".
"بحبك بدالك"، للمطربة لطيفة كانت أول أغنية تشهد على قصة حب "عمار وميرفت"، والتي كان ميكروفون الإذاعة واسطة الخير فيها، والحكاية بدأت حينما استضافته في برنامجها الذي كانت تقدمه على إذاعة البرنامج الأوروبي عام 1988، لتنشأ بينهما علاقة طويلة تنتهي بزواجهما بعد 3 سنوات، "الأغنية دي لحنها عمار عشان كان شايف إنها بتعبر عن حكايتنا لما عرفنا بعض"، تلتها قائمة طويلة من الأغنيات والألحان التي شهدت "القفاص" لحظات نجاحها، "عمار لما كان يبقا عنده شغل كتير يفطر الصبح وينزل على الاستوديو، بس كان دايمًا باب الاستوديو مفتوح لنا أنا ومراد ندخل نسمعه هو بيسجل أغنية، ومكنش بيعترض أنه يسمع مشاكلنا رغم زحمة الشغل، وكنا كتير أوي نحاول نخرجه من مود الشغل عشان كان بيرهق نفسه زيادة".
لم يكن للغواص طقوس محددة لإخراج أنغامه وفقًا لزوجته، تارة يغلق على نفسه باب غرفته ويعكف على كلمات لا يتركها إلا مغلفة بألحانه، وأخرى يأتيه إلهام لحظي قبل أن تنتهي جلسته مع مؤلف أسمعه كلماته، وثالثة يستيقظ من نوم عميق مستقرًا على جملة لحنية بحث عنها خياله طويلًا مثلما حدث في مقدمة مسلسل "أم كلثوم"، وربما يعتقد الكثيرون أن الموسيقى التصويرية للمسلسلات الدرامية تحتاج إلى نظر ثاقب ورؤية دقيقة للمشاهد الدرامية من أجل صياغة الموسيقى التي تليق بها، إلا أن "الشريعي" كان له رأي آخر، "ناس كتير كانت مستغربة إن عمار كان بيعمل مزيكا كل المسلسلات دي من غير ما يكون شايفها، لكن هو كان بيقعد مع كتّاب السيناريو يحكي له كل كبيرة وصغيرة في المشهد عشان يتخيله ويعمل الموسيقى بتاعته، ومفيش حاجة عملها وحشة من رأفت الهجان لحديث الصباح والمساء لأم كلثوم وغيرهم".
في مكتبة الموسيقار عمار الشريعي تجد كل شيء، روائع الأدب العربي والإنجليزي جنبا إلى جنب مع كتب السياسة والتاريخ، أكابر الشعراء العرب يجلسون إلى جانب أباطرة شعر العامية، "عمار مكانش فيه كتاب الناس بتتكلم عنه إلا ولازم يجيبه ويقراه، والكتاب اللي ما يلاقيهوش بطريقة برايل يدور عليه على النت ويقراه عن طريق الكمبيوتر، عشان كده مكانش في مجال يتكلم فيه إلا ويكون فاهم فيه زي المزيكا بالزبط".
صوت الزوجة عاود الاختناق وبسمتها الخفيفة: انتقل الحديث إلى عاميه الأخيرين اللتين كانا صراعه مع المرض عنوانهما، فها هو يوم 4 فبراير 2011 يشهد نزول الموسيقار عمار الشريعي إلى ميدان التحرير ووقوفه بين جموع الثائرين يلقي خطابًا حماسيًا يبشرهم فيها بقرب تحقيق الحلم، "عمار قرر ينزل في اليوم ده رغم تحذيرات الدكاترة الفظيعة، وخوف كل اللي حواليه من خطورة المجهود اللي هيعمله على قلبه، وفعلا دخل المستشفى ليلتها وسمع خبر تنحي مبارك هناك، وكانت الدنيا مش سيعانا".
"الموت والاستشهاد عشانها ميلاد، وكلنا عشاق ترابها النبيل"، كلمات غناها الشريعي وربما جالت بخاطره في ساعاته الأخيرة من على فراش الموت، حينما طلب من زوجته تشغيل قنوات التليفزيون لمتابعة الأحداث الدامية بقصر الاتحادية في ديسمبر 2012، "مصر ما سبتش عمار لحد آخر نفس فيه، ولو كان عايش لحد دلوقتي يمكن كان هيبقا عنده أمل كبير في مستقبل البلد ده اللي جاي"، مضيفة: "انا بكمل المشوار مع مراد اللي إنت أبتديته، وبحاول إني أخليه زي ما إنت عايز، وإنت أكيد حاسس بينا ومبسوط بمراد"، تلك كانت رسالة الإعلامية "مرفت القفاص" إلى زوجها الراحل الذي أوصاها في لحظاته الأخيرة بابنهن كما أوصى الابن بأمه.
بملامح "غواص بحر النغم" البشوشة، ووجهه المرح، التقط أطراف الحديث من أمه، وبدأ يتحدث عن "عمار الشريعي" الأب، الذي رزقه الله بـ"مراد" قبل 14 عاما، "كان باختصار أب مش عادي من كل النواحي، كان صديقي بحكي له كل حاجة وأي حاجة، مكنش في بينا حواجز، الطيبة والحنية اللي في الدنيا كلها كانت فيه، كان أكثر من أب مثالي"، يسترجع "مراد" حكايات الطفولة الأولى، ويتذكر مواقفه مع والده "وأنا صغير كنت لوزعلت ماما في حاجة، آجي له وأحكيله، واستنى نصيحته، ويقولي أعمل ايه، كل ده كان المفروض من ورا ماما، لكن طبعا كان بيقولها كل حاجة، كان بياخدني على قد عقلي، وياخد الموضوع اللي أنا بقوله عليه بنفس الحجم اللي أنا شايفه، ويسايسني ويلعب معايا كتير".
"بكرة بكرة يا مراد.. هيودوك الحضانة.. ويمسكوك الألوان.. وتلعب ويا أصحابك"، كلمات أول أغنية أنشدها "الشريعي" لنجله، فهي محفورة في رأسه، وكأنه غناها له بالأمس، "أول يوم ليا في المدرسة، أو كانت لسا الحضانة، روحت عيط له، وقلت له مش عايز المدرسة، فقعدني وعملي الغنوة دي على المدرسة، وكان أي حاجة يعملي بيها أغنية، وكانت طريقته خاصة في التواصل معايا، بابا كان في أغاني الأطفال ملهوش مثيل، أغانيه للأطفال وشرايطها دي اللي كبرت عليها".
"مراد" يتذكر مثل هذه الأيام، السابقة لشهر رمضان، قبل 5 أعوام، وقت أن يجتمع نجوم الفن والطرب في منزلهم، للإعداد للأعمال الموسيقية من تترات للمسلسلات وموسيقى تصويرية: "كان بابا في الوقت ده شغال ليل نهار، كان الاستوديو ميبقاش في مكان، والبيت هنا شغال الـ 24 ساعة، حتى كان ممكن يطلع ينام وهما مكملين، ممثلين ومطربين ومخرجين، دي فترة عمري ما أنساها"، يسترسل "مراد" في الحديث عن مواقف لا تنسى مع والده أثناء فترة عمله بالاستوديو: "كان وأنا عمري 7 سنين، آجي هنا الأستوديو، أقله أنا عايز أعمل مكساج للصوت على الميكسر، ورغم ضغط الشغل، مكنش يزعل مني، وكان ياخدني على قد عقلي، يفصل جزء من من الميكسر ويقولي مكسج يالا، أبقا فرحان أوي وفاكر إني أنا اللي عملت ميكساج الصوت للأغاني".
"مينفعش أكون زي عمار الشريعي"، يقولها "مراد" والابتسامة مرسومة على وجهه، فرغم عشقه للموسيقى إلا أنه يخشى الخوض في غمار العمل الفني، "من سن 4 أو 5 سنين وأنا بلعب بيانو، ولسا بشتغل على البيانو لحد دلوقت كهواية أكتر منه احتراف، ورغم حبي للموسيقى إلا إني عمري ما هبقى زي بابا، بابا وهو في سن أصغر مني 10 و11 سنة كان بيألف مقطوعات لوحده، الموهبة بتبان من سن صغير"، يواصل الابن الحديث: "كان نفسي أطلع زيه، ولكن صعب، وسألته كتير أنت نفسك أنا أطلع عليه، بسكان تارك الأمر ليا، و كان أهم حاجة بالنسبة له إني أكون أشطر واحد في المجال اللي أنا فيه، مش فارقة معاه سواء أطلع موسيقار أو لا، وقال لي حتى لو هعايز تدخل مجال الموسيقى لازم تكمل دراستك الأول، وتاخد شهادة كبيرة، وبعد كدة تفكر في المجال اللي بتحبه".
يتحول وجه "مراد" الباسم، الذي يهز رأسه ببراء، وهو يتحدث للحزن، عندما بدأ الحديث عن الأيام الأخيرة في حياة "غواص بحر النغم"، ولسان حاله، لا أريد أن أتذكر ذلك الموقف الصعب، "بابا مكنش يحب يبين أنه تعبان أبدا، وبالذات قدامي، وفي الفترة الأخيرة، كان بيستعمل مسكات الأكسجين، ولما أدخل عليه ميبقاش حاببني أشوفه بيها، لحد ليلة الوفاة، تعب أوي، فطلب أنهم ينيموه، ومكنش عارف ينام، فبطمنه متخافش يا بابا، قالي أنا مش خايف خلي بالك أنت من نفسك، ودي كان آخر مرة نتكلم فيها مع بعض".
قائمة الأحباب يتزعمها إبراهيم محمد إبراهيم، الرجل السبعيني، الذي أعلا صوته مفتخرًا بصداقة الخمسين عاما مع "عمار"، كانت مقطوعة سمعها من عزف صديق عمره كفيلة برسم أبهج معالم الحياة على وجهه، ثم يأتي الدور على "عبدالحليم بسيوني" الذي شعر أنه خرق الدنيا بصداقتهما، "الأستاذ وهو صغير قال انا نفسي أصاحب الواد ده، قصده عليا"، قبل أن يدخل "محمد زكي"، الذي صادق "الغواص" منذ عام 1954، وكان أحلى من رافق في دنياه.