السد العالي.. رخاء وكرامة
كان السد العالي أكبر المعارك التي خاضتها مصر في الزمن المعاصر في مواجهة قوى الاستعمار العالمية ومواجهة الفقر وحاجة الدولة للتنمية والرخاء . صارت معركة السد العالي معركة الكرامة المصرية بعد أن قصدت قوى الاستعمار الضغط على مصر وإملاء شروطها عليها . انتصرت مصر وبنت السد وأممت قناة السويس ودحرت العدوان الثلاثي في عام 1956 وصارت قوة إقليمية كبرى وقوة سياسية عالمية ذات تأثير كبير .عاشت مصر آلاف السنين مع فيضان النيل الذي كان يغرق البلاد ويهدر المياه في البحر المتوسط , وكان تذبذب إيرادات المياه في النهر الخالد مسألة مؤثرة للغاية على المحاصيل والناتج الزراعي في البلاد.
وعلى مدى القرون سعت السلطة في مصر لتحجيم النهر الجامح , لكن جموح النيل استمر إلى مشارف القرن العشرين حيث تطورت الهندسة ودخلت مرحلة تطور كبيرة في بناء السدود .في عهد محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ بناء قناطر الدلتا التي اكتملت في عام 1861 , لكن بسبب الضغوط للإسراع في إتمام المشروع حدثت بعض الأخطاء في المجرى الخاص بفرع رشيد مما استدعي مراحل متكررة لعلاج هذه الأخطاء.
وفي عام 1898 بدأ إنشاء سد أسوان وهو من المشروعات المهمة خاصة في تلك المرحلة حيث كان السد يخزن مليار متر مكعب من المياه بعدما اكتمل بناؤه في عام 1902 . وتم على مراحل مختلفة زيادة سعة السد ليصل في النهاية في ثلاثينات القرن العشرين إلى سعة خمسة مليارات متر مكعب , ولم يكن من الممكن هندسيا تحقيق أي زيادة أخرى في سعة السد لأن ذلك يشكل خطورة على جسم السد نفسه .عند قيام ثورة يوليو 1952 كان الوضع المائي في مصر حرجا وبدأ التفكير في علاج دائم للمشكلة والمفاضلة بين مشروعات متعددة في أعالي النهر كما تم من قبل أو في مشروع ضخم في مصر لحل مشكلة توفير المياه بصفة مستمرة وحجز مياه الفيضان وتنظيم جريان المياه في النهر .
تم تقييم تكاليف بناء السد فتجاوزت مائتي مليون جنيه وهو مبلغ كبير جدا في ظروف تلك الأيام , لكن جمال عبد الناصر كان قد نجح في حشد الجماهير وراء حلمه الكبير ببناء سد عالي يمنع الجفاف والفيضان ويضع مصر على طريق الرخاء .توجهت مصر إلى الدول الغربية من خلال البنك الدولي الذي رفض إقراض مصر رغم أن عبد الناصر وافق على شروط البنك في النهاية رغم ما فيها من قيود لكن أمريكا كررت رفضها ما يدل على إضمار النية للرفض حتى النهاية.
كانت شروط البنك الدولي مجحفة للغاية وبدا أن نهايتها غير آمنة خاصة أن مصر لديها عقدة من القروض التي تسببت في القرن التاسع عشر في الاحتلال الإنجليزي الذي استمر 74 عاما إزاء الموقف الأمريكي المتعنت وقصد إهانة مصر وشعبها باتهامها بعدم قدرتها على سداد الدين على مدى 15 عاما هي فترة بناء السد , أعلن ناصر تأميم شركة قناة السويس ليوفر من دخلها احتياجات بناء السد الذي صار حلما ينتظر المصريون تحقيقه بفارغ الصبر . وروى ناصر قصة السد وحكاية القرض ودوافعه لتأميم القناة . وطرح ما عرضه السوفييت على مصر لبناء السد بدون أي شروط.
كان تأميم القناة حقا لصاحب الحق في أن يتصرف في ملكيته وهو هنا مصر بصورة مطلقة وغير محدودة , كما كان استجابة مادية من صاحب القرار للأماني الاشتراكية للأمة وتحقيقا للرخاء والكرامة .ووقع العدوان الثلاثي الذي أظهر مكنون التكاتف في كل الوطن العربي , وخاض الشعب المصري معركة الدفاع عن بلاده وساندته الشعوب العربية الشقيقة.
وساند الاتحاد السوفييتي مصر بكل قوة وضغط على أمريكا وعلى إنجلترا وفرنسا وهدد بضرب المدن الغربية وضغطت أمريكا كذلك على دول العدوان لأسباب مختلفة لكن كان موقفها حازم بشأن إنهاء العدوان والخروج من مصر .في 9 يناير 1960 وضع جمال عبد الناصر حجر الأساس لمشروع السد العالي . تلألأت العناوين الرئيسية للصحف بالخبر الذي طال انتظاره , الخبر الذي جسد الأحلام وحقق الأمنيات.
نشرت الصحف في اليوم التالي عما حدث , وكتبت الصحف: تحقق الحلم , أعطى الرئيس جمال عبد الناصر في الساعة الثانية إلا عشر دقائق إشارة بدء العمل في السد العالي , ضغط الرئيس على زر كهربائي فنسف الديناميت 20 ألف طن من الصخر ارتفعت في الفضاء معلنة تنفيذ الحلم ببناء السد , وقد صار السد أعظم المشروعات الهندسية في القرن العشرين , كما كانت قناة السويس أعظم المشروعات الهندسية في القرن التاسع عشر في العالم.
السد العالي عبارة عن جبل من ركام الجرانيت يعترض مجرى النيل على بعد 7 كيلومترات من أسوان ويصل ارتفاعه إلى 111 مترا وتبلغ قاعدته ألف متر وطوله 3 كيلومترات ويبلغ عرض الطريق أعلاه 32 مترا ويحجر وراءه المياه بارتفاع 182 مترا مما يتيح تخزين 130 مليار متر مكعب من المياه . ضاعف السد إنتاج الكهرباء بمقدار ستة أمثال حجمها الموجود سابقا وزاد مساحة الأرض المنزرعة بمقدار مليون فدان .في داخل حجر الأساس وضع الرئيس ناصر 39 جنيها و34 قرشا مصريا مع المصحف الشريف في صندوق خشبي , كما وضع الملك محمد الخامس ملك المغرب الذي شارك في حفل الافتتاح مبلغا من العملة المغربية , وبجانب ذلك تم وضع بعض الوثائق والمستندات ومنها وثيقة بدء العمل في بناء السد ولائحة العمل به والصحف العربية الصادرة في هذا اليوم.
كتب محمد حسنين هيكل مقالا عنوانه " تحية له " وجهه إلى الرئيس جمال عبد الناصر قال فيه : فرحت أمس لجمال عبد الناصر , لقد تحققت أمامه الرؤى التي كانت تعبر خياله وكأنها الأحلام البعيدة التي لا تلحق ولا تطال , قد التقى وجها لوجه مع الآمال التي طالما بشر بها ومع الأهداف التي طالما دعا إليها , لقد أصبحت حقائق كبيرة يراها بعينيه ويراها شعبه معه " . كان السد العالي حلما .. فأصبح ملحمة .. وتجسد حقيقة عبرت عن الحلم والأمل والكرامة الوطنية.