الشيخ دونالد ترامب

راجى عامر

راجى عامر

كاتب صحفي

صادفنى عبر السوشيال ميديا مقطع فيديو للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب يتحدّث خلاله عن الحجاب، وقد نشره بعض المستخدمين، باعتبار أن «ترامب» يؤيد حق النساء فى ارتداء الحجاب، وبغض النظر عن مدى دقة هذا الفيديو (الذى لم يتم نشره من مصدر موثوق به)، خاصة فى ظل مواقف «ترامب» وإدارته تجاه المسلمين، وأيضاً تصريحاته السابقة التى دافع خلالها عن مذيعة أمريكية تعرضت لعقوبة إدارية بعد انتقادها نائبة مسلمة على ارتدائها الحجاب.. ولكن المهم أن من نشروا هذا الفيديو كانوا يريدون أن يقدموه لنا بوصفه الشيخ «دونالد ترامب»، الذى يعطينا خطبة عن الحجاب.

انتشار الفيديو بعناوين وتعليقات تشير إلى تأييد «ترامب» للحجاب، جعلنى أفكر فى مدى رغبة البعض فى التدليل على صحة مواقفهم من خلال الإشارة إلى تأييد الآخرين لها.. فى حين أن القضية لا تحتاج إلى مؤيد أو معارض، إنما هى قضية تتعلق بحق النساء فى ارتداء ما يروق لهن من ملابس تعبّر عن هويتهن الثقافية، والاجتماعية، وعاداتهن، وتقاليدهن، دونما تسلط أو وصاية أو ضغوط من أحد.

فى الوقت ذاته، يفضل البعض أن يستغل المواقع الاجتماعية فى إثارة الجدل عبر نشر صورتين ووضع مقارنة بينهما، ثم الاستناد إلى هذه المقارنة للوصول إلى استنتاج فاسد لا يرتبط بموضوع المقارنة ذاتها!

فتجد مثلاً من ينشر صوراً لطبيبات أو ممرضات فى الأربعينات من القرن الماضى، وقد ارتدين من الملابس ما كان دارجاً فى هذه الحقبة الزمنية، سواء التنورة القصيرة أو غيرها، ثم يقارنها بصور معاصرة لطبيبات أو ممرضات مصريات وقد ارتدين ملابس طويلة أو فضفاضة أو وضعن على رؤوسهن الحجاب شأنهن فى ذلك شأن معظم الفتيات والنساء فى مصر دونما اقتصار على العاملات فى مهنة الطب تحديداً.

أصحاب هذه المقارنات يرغبون فى التدليل -من خلال وضع هذه الصور فى مقارنة- على أن الفارق فى حال المستشفيات قديماً والآن هو «ملابس النساء» فحسب، وكأن ارتداء «التنورة القصيرة» كان السر فى نظافة هذه المستشفيات أو توافر الأدوية والمعدات بها أو كفاءة العنصر البشرى، أو مواكبة نظم التعليم فى المدارس والجامعات المصرية لأحدث ما توصل إليه العلم!

يتجاهل هؤلاء السبب الحقيقى وراء انهيار أوضاع بعض المستشفيات، وسوء جودة الخدمة الطبية المقدّمة بها، لذا يرغبون فى وضع الحل الأسهل الذى يُرضى قطاعات من جمهور المواقع الاجتماعية، وهو ببساطة «ملابس النساء».

ويتناسون أنه فى عصور الإسلام الأولى لم تمنع الملابس النساء من ممارسة مهنة الطب، مثلما لم تساعد الملابس طبيبات الدول الغربية فى التفوق العلمى، أو فى أن تصبح مستشفياتهم هى الأفضل.

مروجو هذه المقارنات -بين ملابس النساء فى الماضى والحاضر- عادة من أصحاب التوجّه الليبرالى الذين يُفترض بهم الدفاع عن حريات الأفراد واختياراتهم، لكنهم يتجاهلون عن عمد حرية النساء فى اختيار ما يروق لهن من ملابس، وكأنهم صدى صوت معاكس للخطاب المتشدّد الذى ردّد لسنوات (يزداد الغلاء ما لم تتحجب النساء)، باعتبار أن قطعة القماش هى التى ستعمل على إدارة السياسة النقدية والمالية للدولة، أو ستعمل على جذب الاستثمارات، أو إيقاف الحروب أو الأوبئة التى يعانى منها الاقتصاد العالمى!

إن أصحاب هذه الخطابات التى ترى -حتى إن لم تصرح- فى المرأة المحجبة أقل شأناً أو تحضراً من مثيلتها غير المحجبة يمارسون التسلط نفسه على النساء، الذى يمارسه أصحاب التيار المتشدّد تجاه النساء حينما يطلقون أوصافاً مهينة تجاه غير المحجّبات للتقليل من شأنهن أو وضعهن فى خانة الأقل تديّناً أو الأقل أخلاقاً.. إنه صدى الصوت المعاكس فى ضوضاء متبادلة لا هدف منها.. صرخات بين تيارين كلاهما يحتقر النساء ويرغب فى التسلط عليهن، ولا ينتظر كلاهما سوى صورة مقتطعة من سياقها أو مقطع فيديو مجتزأ لتوظيفه فى خدمة أفكاره وممارسة المزيد من التسلط على النساء.