عالم نجيب محفوظ

رفعت رشاد

رفعت رشاد

كاتب صحفي

أقف في مكتبتي أمام الركن الخاص بروايات نجيب محفوظ والكتب التي صدرت عنه وهو الركن الأكبر قسم الآداب والنقد في المكتبة . أنتقي رواية , وبمجرد أن أبدأ أول سطورها أجدني لا أتركها إلا وقد أنهيت على صفحاتها . أو اصطحب كتابا نقديا عن أعماله رغم أنها ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها روايات كاتبنا الأكثر إبداعا ولكن في كل مرة أشعر أن لذة القراءة لا تختلف في الشعور بها عن لذة المرة الأولى.

إذا قرأت حضرة " المحترم " فأنا مستغرق مع عثمان بيومي الموظف المثالي الذي تلبسه حلم فعانى من أجله على مدى سنوات حياته , وهو شرف الجلوس على مقعد المدير العام في حجرة مكتبه التي لا تقارن بأي مكان آخر ليحمل لقب " صاحب السعادة ".

سخر نفسه على مدى عمره , نبذ الملذات والمتع الأساسية في الحياة لكي ينال هذا الشرف, وبعد أن اقترب للغاية وصدر القرار بجلوسه في المكتب الذي عده قطعة من السماء, حرمه المرض من الجلوس في المكتب والتمتع بكل ما عاش من أجله وحلم به .

إذا قرأت " الشحاذ " وجدت عمر الحمزاوي المحامي الناجح الذي يعيش في بحبوحة , لكنه يكف عن التعلق بالمال والجاه , يبحث في كل الأنحاء عن شئ ينقصه , يعاني بشدة , يسافر ويجول في أماكن كثيرة ربما ينال الراحة , لكن يبقى الشئ الناقص الذي لا يعرف كنهه مؤرقا ومنغصا حياته . إنه يبحث عن الحقيقة , لكنها حكاية الإنسان إذا تشبع بحاجته المادية , وجد نفسه يبحث عن شئ يفتقده.

في "الطريق" يبحث فيها الإنسان عن ذاته وعن الكرامة والحرية من خلال صابر الذي ينطلق للبحث عن أبيه الذي مازال على قيد الحياة على عكس ما قالت له أمه على مدى عمره السابق . بينما تعبر "اللص والكلاب" عن الإنسان الذي يعيش في فراغ ويفتقد بوصلة توجهه فيتطلع إلى الخلاص مستخدما طريق "الفتونة" والفوضوية واعتقد أن سرقة الأغنياء ليست رذيلة.

عيسى الدباغ الذي هجر القاهرة إلى الإسكندرية وقت الخريف " السمان والخريف " نموذج لمن تحرقهم التغيرات الكبيرة المفاجئة بدون أن يكون لهم ذنب.

كان عيسى في منصب مرموق بالحزب الحاكم وعلى وشك أن يحقق آمالا كبار , لكن حريق القاهرة وقيام ثورة يوليو 1952 قذفا به إلى لجان التطهير وسرعان ما ضاعت آماله وصار بلا شئ.

في رحلة الإسكندرية ينسج محفوظ تفاصيل حكاية عيسى والإنسان الذي ضاعت أحلامه في اللحظة التي كان يستعد فيها للقبض عليها بكلتا يديه وهي تيمة تكررت بصور متعددة في الروايات المحفوظية.

قال د. طه حسين في نقده رواية "بين القصرين": "فلأقدم تهنئتي كأصدق وأعمق ما تكون التهنئة إلى كاتبنا الأديب البارع نجيب محفوظ ولأقدمها إليه بلا تحفظ ولا تحرج فهو جدير بها حقا لأنه أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقة ومن التأثير الذي يشبه السحر ما لم يتحه لها كاتب مصري من قبله ".

ماذا عن أولاد حارتنا , والحرافيش , وثرثرة فوق النيل وغيرهم كثير من عالم الأديب الكبير . لست أكتب نقدا أو تحليلا عن نجيب محفوظ ورواياته , إنما كتبت سطور بسيطة عن شعوري بلذة قراءة أعماله مهما تكررت قراءتها واستغراقي مع حكايات وأبطاله مهما عرفتهم .ماذا لو لم يكن لدينا نجيب محفوظ !