كتاب «الدولة اليهودية».. كيف جاءت إسرائيل من العدم؟
فى المقال السابق «هرتزل.. الضائع الذى أسس إسرائيل»، استعرضنا حياة تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، الذى عاش عمره ضائعاً يبحث عن أحلام ضائعة. فشل أن يكون عالماً، ثم فشل أن يكون أديباً، ثم فشل أن يكون صحفياً ذا وزن، ثم فشل أن يكون محامياً ذا شهرة، وقبل ذلك وبعده فشل أن يكون زوجاً جيداً أو والداً مسئولاً.
أخفق أن يكون ما أراد، فقرر أن يكون ما أُتيح له.. مجرماً.
وفى عامه السادس والثلاثين قدّم جريمته إلى العالم باسم «الدولة اليهودية»!
كتاب «الدولة اليهودية» الصادر عام 1896 لا ينطوى على أى نظرية معرفية أو حجج وقرائن وبراهين، لم يقدم أى إجابات تاريخية أو سياسية أو ثقافية على أى أسئلة تتعلق بقضية يهود أوروبا، لم يضع أى تصورات شاملة عن الماضى والحاضر والمستقبل.
على عكس ذلك تماماً، يمكن إيجاز وصف الكتاب بأنه خطة لتنفيذ جريمة مكتملة الأركان مثل خطط اللصوص والعصابات. لكن الجريمة هنا ليست سرقة مصرف ولا خزينة بيت، بل سرقة أرض وحدود وشعب، بل سرقة تاريخ ومستقبل أيضاً!
كتاب الدولة اليهودية هو أول -وربما آخر- خطة جريمة منظمة ومعلنة ومنشورة على 126 صفحة تدور حول سرقة بلد بالكامل.
يتحدث «هرتزل» عن خطته بقدر هائل من الوقاحة، قائلاً: «الخطة بأكملها بسيطة من حيث الجوهر. فلنُمنح سيادة على جزء من العالم كبير بما يكفى للوفاء بالمتطلبات العادلة لأمة ما، ويمكننا نحن تدبر الباقى». يقيم هذه الخطة على ذراعين أساسيتين، الأولى هى «الجمعية اليهودية» التى ستكون مسئولة عن الخطة من الناحية السياسية والعلمية والتسويقية، أما الذراع الثانية فهى «شركة اليهود» التى ستكون مسئولة عن تنفيذ الخطة عملياً، ويصف تلك الشركة بأنها تشبه إلى حد كبير شركات امتلاك الأراضى، وستؤسَّس برأس مال يبلغ 50 مليون جنيه إسترلينى، بقيمة 200 مليون دولار أمريكى حينذاك، وفق القوانين الإنجليزية، وتحت الحماية الإنجليزية، وأن يكون مركزها الرئيسى لندن.
ينتهى «هرتزل» من أدوات تنفيذ الخطة، لينتقل بعد ذلك إلى إجراءات تنفيذها، والتى ستبدأ بنقل اليهود من بلدانهم فى أوروبا إلى بلد آخر لا يعرفونه ولم تطأ أقدامهم أرضه من قبل!
«لا يجب أن نتخيل أن رحيل اليهود سيكون أمراً مفاجئاً، بل تدريجياً، ومتواصلاً، وسيستمر لعدة عقود، حيث سيرحل الأكثر فقراً أولاً لزراعة الأرض. وسيقوم هؤلاء الفقراء بإنشاء الطرق، والكبارى، والسكك الحديدية، وأجهزة التلغراف، وتنظيم الأنهار، وبناء المساكن الخاصة بهم. سيخلق عملهم هذا تجارة، وستخلق هذه التجارة أسواقاً، وستجذب الأسواق مستعمرين جدداً».
بكل وقاحة، مثل عارٍ فى العراء، يستخدم كلمة «مستعمرين»، ثم فى موضع آخر بالصفحة 113 يضع عنواناً فرعياً من كلمتين هما «احتلال الأرض» كجزء من تلك الخطة، داعياً إلى أن يكون هذا الاحتلال عملاً منظماً، وليس عملاً فوضوياً مثل أسراب الجراد!
يحاول «هرتزل» ترتيب هذا الاحتلال المنظم كما لو أنه يرتب حجرة بيته، فيقول: «ليذهب اليائسون أولاً، ثم الفقراء، ثم ميسورو الحال، ثم الأغنياء فى آخر المطاف. وعلى من يذهبون أولاً أن يرتقوا بمستواهم الاجتماعى بشكل مساوٍ للذين سرعان ما سيلحقون بهم. ومن ثم سيصبح الخروج ارتقاء فى المستوى الاجتماعى».
هذه هى الخطة، لكن أين يمكن تحقيقها؟
لم يكن مرحَّباً باليهود فى أوروبا ذلك الوقت، ولم يكن مرحَّباً بهم فى الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً. كان على «هرتزل» أن يقدم بديلاً يمكن تطبيقه على حساب شعوب أخرى. يعترف هو بنفسه بهذه الحقيقة داخل كتابه، فيقول: «لقد أخرجتنا كروبنا الاقتصادية والضغط السياسى والمهانة الاجتماعية من أوطاننا وقبورنا، وقد أصبحنا ننتقل بصفة مستمرة الآن من مكان إلى آخر، وهناك تيار قوى يحملنا إلى الغرب نحو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وجودنا غير مرغوب فيه أيضاً. فأى أرض سترحب بنا ما دمنا أمة بلا وطن؟!».
بعد الإقرار بمشكلة اليهود، يحاول أن يوجِد حلاً على حساب طرف ليس جزءاً فى هذه المشكلة من الأساس، يقول: «لكننا سوف نوجِد لشعبنا وطناً، ولسوف نعطيهم إياه، لا عن طريق جرفهم دون رحمة من تربة أرضهم، ولكن عن طريق نقلهم وغرسهم بعناية فى أرض أفضل».
يقترح اليهودى، الذى وُلد داخل بيت بالمجر، وحمل الجنسية النمساوية، وتحدّث اللغة الألمانية، وعمل فى فرنسا، أن يذهب هو ويهود أوروبا إلى فلسطين فى المنطقة العربية أو الأرجنتين فى أمريكا الجنوبية!
أى جنون؟!.. وأى وقاحة؟!
يطرح سؤالاً سافراً: «هل يتعين علينا اختيار فلسطين أم الأرجنتين؟.. ويجيب عليه بإجابة أكثر سفوراً: «سنأخذ ما يُعطَى لنا، وما يختاره الرأى العام اليهودى».
لعبة نرد أوقعت الاختيار على فلسطين!
قَبلت الحركة الصهيونية ما أفضى به النرد، ونُفذت الجريمة تحت رعاية أوروبية، وبموافقة أمريكية، وعلى مرأى ومسمع من السلطان الأحمر عبدالحميد الثانى، الذى قال قولته الشهيرة بعد خمس جولات من التفاوض: «ادخلوا هذه البلاد كرجال مال.. وكونوا أصدقاء»!
هكذا جاءت إسرائيل من العدم.. ليس من باب الأصدقاء، بل من باب اللصوص والمجرمين!