غزة ملكة جمال العالم 2023

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

ليس غريباً أن تحصل غزة هذا العام على المركز الأول فى تلك المسابقة السنوية التى ينتظرها العالم كله وتعلن نتيجتها فى حفل عالمى تنقله تليفزيونات العالم كله، وينتظر الجميع اللحظة الحاسمة عندما تتوج ملكة الجمال وتحصل على التاج الذى لا يُقدّر بثمن، ولأن هذه النتيجة تتضمن الحصول على أعلى التقديرات فى مختلف الإمكانيات والقدرات، فقد حصلت عليها سيدة العالم بجدارة بعد أن شاهدها العالم كله على الهواء تتجمّل بدماء شهدائها وتتعطر برائحتهم وترفع علامة النصر بأصابعها التى تحفر بها وسط الأنقاض، بحثاً عن المفقودين.

حصلت غزة على المركز الأول، فهى صاحبة التاريخ الذى سجّلته أسماء شوارعها، فأولها شارع أحمد عرابى، ويليه شارع عمر المختار، وشارع عز الدين القسام، وطريق صلاح الدين، وميدان فلسطين، وشارع الوحدة، وميدان الجندى المجهول. وعلى جدران جامعاتها سجّلت أسماءها وكأنها تتحدث عن الأصل والانتماء، فهناك الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر وجامعة غزة وجامعة الأقصى.

الملكة المتوجة من أقدم المدن التى عرفها التاريخ، إنها ليست بنت قرن من القرون أو وليدة عصر من العصور، وإنما هى بنت الأجيال المنصرمة ورفيقة العصور الفائتة كلها، وفى كتاب صدر عام ١٩٤٣ جمع فيه المؤرخ الفلسطينى المقدسى عارف العرف كل ما كتب عن هذه المدينة الساحلية فى المؤلفات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية وسجّل لها هذا الوصف. وفى كتاب أقدم صدر عام ١٩٠٧ للحاخام الأمريكى مارتن ماير عن غزة وصفها المستشرق الأمريكى ريتشارد جوتهيل بأنها (مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ)، ومنذ قديم الزمن والعرب يطلقون عليها (غزة)، وفى العصر الإسلامى أطلق عليها (غزة هاشم)، فى إشارة إلى جد نبى الإسلام هاشم بن عبدمناف، الذى توفى فيها، وهى التى وُلد فيها الإمام الشافعى مؤسس المذهب الإسلامى الشهير، والذى قال عنها (وإنى لمشتاق إلى أرض غزة وإن خاننى بعد التفرق كتمانى)، ويقول العارف فى كتابه «تاريخ غزة» إن الكنعانيين كانوا يطلقون عليها «هزاتى»، أما المصريون القدماء فكانوا يسمونها «غازاتو» أو «غاداتو».

ملكة جمال العالم ٢٠٢٣ تحمل بين حروف اسمها الكثير من المعانى، حيث يقول يوسابيوس القيصرى الذى أطلق عليه أبو التاريخ الكنسى، وقد عاش فى القرن الرابع بعد الميلاد، إن غزة تعنى العزة والمنعة والقوة. وانضم إليه فى ذلك -حسب العارف- السير وليام سميث فى قاموس العهد القديم الذى صدر عام ١٨٦٣، وأرجع السبب فى ذلك إلى الحروب الكثيرة التى دارت رحاها فى المدينة وحولها، والتى صمدت خلالها ولم يبقَ فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق إلا ونازلته وصرعته.

ومن أجمل المعانى التى شرحت اسمها تلك التى ذكرها صفرونيوس، صاحب قاموس العهد الجديد، الذى صدر عام ١٩١٠، حيث قال إن «غازا» كلمة فارسية تعنى الكنز الملكى، وهو معنى لا يبعد كثيراً عمن يقول إن غزة كلمة يونانية تعنى الثروة أو الخزينة، ويقال إن ملكاً من ملوك الفرس دفن ثروته فيها وغاب عنها ثم رجع إليها فوجدها على حالتها، وتكرّرت تلك الرواية فى عهد الرومان.

وتاريخ ملكة هذا العام قديم يتحدث عن طمع الغزاة فيها منذ قديم الزمان، فهى معروفة منذ ما يزيد على أربعة آلاف سنة، وقد حكمت غزة ودمرت وأعيد بناؤها والسكن فيها من قِبل الكثير من السلالات والأباطرة. بدايتها عندما وقعت تلك الأرض الكنعانية تحت سيطرة قدماء المصريين لما يقرب من ٣٥٠ سنة قبل أن يتم فتحها من قِبل الفلسطينيين الذين جعلوا منها واحدة من المدن الرئيسية فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد، ثم سقطت غزة فى يد بنى إسرائيل على يد النبى داود فى نحو سنة ألف قبل الميلاد، ثم أصبحت تحت سيطرة مملكة شمال السامرة، وفى نحو سنة ٧٣٠ قبل الميلاد أصبحت جزءاً من الإمبراطورية الآشورية، وبعد ذلك تحت الحكم الفارسى للإمبراطورية الأخمينية، حاصرها الإسكندر الأكبر لمدة خمسة أشهر قبل فتحها فى ٣٣٢ قبل الميلاد، وأصبحت المدينة مركز التعلم والفلسفة للحضارة الهيلينية وسكنها بعض البدو القريبين منها. ثم انتقل حكم المدينة بين اثنين من المماليك اليونانيين هما السلوفيون من سوريا والبطالمة من مصر، وحوصرت المدينة ليفتحها الحشمونيون فى ٩٦ قبل الميلاد. وبعد أن بدأ نفوذ الإمبراطورية الرومانية فى المنطقة فى ٦٣ قبل الميلاد، أعيد بناء المدينة تحت قيادة هيرودس الأول بعد ثلاثين عاماً، وطوال الفترة الرومانية حافظت غزة على ازدهارها وتلقت المنح من عدة أباطرة وكان يحكمها مجلس من ٥٠٠ عضو، وسكن المدينة مجموعة متنوعة من الإغريق والرومان واليهود والمصريين والفرس والأنباط.

وكانت غزة أول مدينة فى فلسطين يفتحها المسلمون فى عهد الخلافة الراشدة فى ٦٣٥م، فدخل الكثير من أهلها الإسلام، وقد شهدت المدينة فترات ازدهار وانخفاض، حيث احتلها الصليبيون وعندما استعادها صلاح الدين الأيوبى، ظلت تحت حكم الأيوبيين، ثم المماليك، ثم أصبحت عاصمة ولاية الشام. ومع أوائل القرن التاسع عشر سيطرت مصر ثقافياً على غزة، وحكمها محمد على باشا من ١٨٣١ إلى ١٨٤٠، وفى عام ١٩٤٧ أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين، وفى هذا القرار تم تخصيص قطاع غزة ضمن الدولة الفلسطينية العربية، وهاجر إلى المدينة عدد من الفلسطينيين، نتيجة حرب ١٩٤٨، وخلال تلك الحرب تم إعلان قيام حكومة عموم فلسطين من قِبل الجامعة العربية وكانت الهيئة التنفيذية الفلسطينية تجتمع فى مدينة غزة.

ويأتى عام 1967 لتحتلها إسرائيل فى الحرب وتتحول إلى مركز للمقاومة السياسية فى الانتفاضة الأولى، ومن أزمة إلى أخرى وبين حرب والتالية تظل غزة هى ملكة جمال العالم، التى ستقوم وتقاوم وتتجمّل وترتدى تاج الملكات بلا منازع.