حرب غزة.. إعلام جديد وآليات قديمة

يحلو لكثيرين القول إن ما فعلته وسائط "التواصل الاجتماعي" في مواكبة حرب غزة كان مميزاً ومذهلاً وإيجابياً، لأنها تمتعت بسقف حرية أكبر بكثير من الإعلام المؤسسي، ولأنها ساهمت في فضح جرائم العدوان الإسرائيلي، ولأنها أدت دوراً مؤثراً في بلورة الحس الجمعي المناهض للعدوان، والمندد بالانحيازات السياسية والإعلامية الغربية الصارخة للدولة العبرية على حساب الفلسطينيين.

وبينما يقر البعض بأن هذه الوسائط لا تزال حافلة بالكثير من أنماط التلاعب والتضليل، وأنها تفسح المجال لبعض أسوأ المقاربات والمقولات والممارسات التي تمثل جرائم مكتملة الأركان، فإن البعض لا يلحظ أن تلك الوسائط خضعت أيضاً لآليات تحكم وسيطرة غربية بدت مناقضة تماماً للانطباعات الأولية السائدة عنها بوصفها "حرة ومنفتحة".

لقد ثبت أن آليات السيطرة والتحكم في المحتوى الذي يذاع عبر تلك الوسائط فعالة ومؤثرة، عندما وجد كثير من المستخدمين صعوبة في بث بعض الآراء والصور والفيديوهات أو استخدام بعض الأوصاف تجاه أطراف الحدث.

صحيح أن معظم تلك الآليات يتعلق بالرقابة اللاحقة التي تتفاعل مع المحتوى بعد فترات متباينة من بثه، لكنها مع ذلك ظلت قادرة على تأطير المشاركات وحرفها أحياناً.وعندما حاول إيلون ماسك مالك منصة "إكس" (تويتر سابقاً) أن يتخذ موقفاً مغايراً لعديد الوسائط الأخرى، ويسمح عبر منصته بمقاربات تعاكس التيار السياسي الرئيسي السائد في الغرب حيال الصراع وطرفيه، فإنه واجه على الفور حزمة من الضغوط العارمة التي كانت كفيلة بـ"إقناعه" بتغيير موقفه.

ومن بين تلك الضغوط ما هو سياسي يمكن عبره تلطيخ سمعة ماسك ووضعه على "لوحة التنشين"، لكن يبدو أن الأقسى بينها والأكثر فاعلية كان حض أو تشجيع بعض الشركات العالمية الكبرى على سحب الإعلانات من المنصة، بما يفاقم خسائرها وأوضاعها المالية المرتبكة.

أما بقية الوسائط، فقد أظهرت التزاماً مبدئياً بمقاربة الصراع من خلال التزامها المزاج والمواقف السياسية الغربية الرسمية التي بدت مناصرة للجانب الإسرائيلي بشكل واضح منذ اليوم الأول لاندلاع المعارك في 7 أكتوبر الماضي.

وعندما سيسود الانطباع بين المستخدمين في مناطق مختلفة من العالم بأن تلك الوسائط تخضع لآليات تحكم وسيطرة، وترسي معايير سياسية ليست مُنصفة أو عادلة بالضرورة، للتفاعلات عبرها، فإن كثيراً من الثقة في انفتاح تلك الوسائط سيتبدد.وعندما يتكرس هذا الانطباع، فإن بعض الدول والجماعات والمؤسسات ستبحث في وسيلة لإيجاد فضاء "سوشيالي" أكثر عدالة وإنصافاً، أو أقل خضوعاً للتدخلات والتأطير.

سيقودنا هذا إلى تفهم بعض السياسات الاتصالية التي ظهرت في بلدان مثل الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وهي سياسات انطلقت من الرغبة في تعزيز السيادة الرقمية، أو خلق العزلة الرقمية عن الفضاء الاتصالي الذي بدا خاضعاً للغرب تحديداً.احتاجت الصين إلى عقد من الزمان لكي تُفعّل سيادتها الرقمية على نطاقها الاتصالي، وبعد هذا العقد باتت متحكمة تماماً في نطاق الإنترنت عبرها.

واحتاجت روسيا إلى أن تعاني من تضييق غربي على صوتها في الأوساط الإعلامية خلال حربها مع أوكرانيا، قبل أن تمضي قدماً في تفعيل عزلتها الرقمية، وتعزيز سيادتها على الإنترنت، لكي تتمكن من التحكم فيما يصلها من رسائل، ولكي تضمن لنفسها صوتاً في النزال الاتصالي العالمي المواكب للحرب.

أما كوريا الشمالية فلم تكن بحاجة إلى أي دوافع لكي تُمتن أواصر عزلتها الرقمية التي لم تكن سوى حلقة ضمن حلقات العزلة التامة التي اختارتها لنفسها.

ويبدو أن ما حدث في مواكبة حرب غزة قد يدفع بعض الدول العربية والكيانات المؤسسية بها إلى التفكير في اجتراح وسائل للنقاش بعيداً عن الوسائط الرائجة التي ثبت أنها أكثر مطاوعة لتلقي الضغوط والتأطير وفق المنظور والمصالح الغربية.وفي هذا الصدد، ربما يمكن توجيه نصيحة للشركات التكنولوجية الغربية العملاقة المهيمنة على عالم وسائط "التواصل الاجتماعي"؛ ومفادها أنه من الضروري التشبث بفكرة الانفتاح وعدم الكيل بالمكاييل المزدوجة، لكي تحافظ على حصتها في صناعة الاتصال العالمية.

أما النصيحة التي يمكن توجيهها للسياسة الغربية في هذا الصدد، فهي أن الإفراط في التحكم في هذه الوسائل عبر الضغط على مالكيها ومشغليها لتأطير ما يرد بها من تفاعلات، قد يؤدي إلى انصراف قطاعات من الجمهور العالمي عنها.

وفي المقابل، فإن النصيحة التي يمكن توجيهها للفاعلين السياسيين والإعلاميين في بلدان الشرق ومناطق أخرى من العالم، فهي أنه من الضروري أن يتم تطوير وسائط تواصل لا تخضع بالضرورة للهيمنة الغربية، إذا كانوا يرغبون في توفير وسط اتصالي أكثر توازناً وأقل امتثالاً للمصالح والمزاج الغربيين.