سيناء المقدسة.. ابن الأرض يعرف سرها
لا تمر معركة بين الإسرائيليين وأى طرف عربى إلا وتصر على استدعاء سيناء لتكون الجزء الأهم فى المعركة بما لا يدع مجالاً للشك أنهم لم ولن يغيروا موقفهم ونواياهم تجاه الأرض وأصحابها ما يكشف سعيهم الدائم للاستيلاء عليها أو على أجزاء منها.
مع بداية العدوان على قطاع غزة الثامن من أكتوبر، كان موعدنا مع جولة جديدة روّجت لها إسرائيل بلغت من الوقاحة حد الدعوة إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء بشكل جزئى أو مكتمل وكأنها «ميراث أبوهم» يتصرفون فيه كيف يشاء قادتهم وحاخاماتهم وهو ما واجهته مصر بالرفض الفورى بشكل حاسم.
الحلم الوهمى بالاستيلاء على أرض الفيروز لم يفارق الصهاينة منذ نهايات القرن التاسع عشر حين زار (بالمر) سيناء فى تاريخ يسبق احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 قاصداً «نخل «وكانت عاصمة لسيناء رفقة شخصية يهودية ومترجم سورى، ولم يفلح فى إقناع الدولة العثمانية أن تمنح اليهود سيناء لإقامة وطن قومى فيها.
بعد انعقاد مؤتمر بازل فى23 أغسطس عام 1897 الذى تبنى إنشاء وطن قومى لليهود سعى «هرتزل» بالفعل لإقامته فى سيناء وكان يطلق عليها (فلسطين المصرية).
وكان «هرتزل» قد اقترح «مشروع العريش» يمنح بموجبه لليهود الحق فى استغلال الأراضى التى تحيط بمنطقة العريش بمساحة إجمالية 630 ميلاً مربعاً، وتضمن المشروع تمرير مياه النيل عبر أنفاق أسفل قناة السويس.
ومع تعذر حلم هرتزل وفى العام 1910 عاودت الجماعات الصهيونية المحاولة عن طريق المصرف (الأنجلو فلسطينى) الذى قام بشراء نحو 2380 فداناً بسيناء بواسطة أحد رجال السلك السياسى الإنجليزى الذى تنازل بدوره عن هذه الأراضى للبنك.
ورفضت محافظة سيناء منحه صفة الملكية أو وضع اليد، كما منعت الحكومة المصرية تمليك الأراضى فى المناطق الحدودية إلا بموافقة وزارة الدفاع والمالية، وبعد قيام الدولة اليهودية وهزيمة العرب فى حرب 48 طالب ديفيد بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلى، بضرورة الاستيلاء على سيناء وهو ما نجحت فيه خلال حرب الأيام الستة والمعروفة بـ «نكسة 67».
صارت الفرصة مواتية لفصل سيناء بشكل تام ونهائى عن مصر ولاحت للمحتل فكرة تطميع أهالى سيناء بدولة مستقلة تحقق طفرة فى حياة سكان الصحراء وهو ما قام به موشيه ديان، وزير الدفاع فى إسرائيل آنذاك شخصياً، حين التقى مشايخ سيناء لإقناعهم بفكرة تحويلها إلى دولة مستقلة وأسهب فى ذكر ما سيعود عليهم بمجرد قبول الفكرة على المستويين العام والشخصى، مدللاً بعدد من الإمارات فى الخليج التى تعيش الثراء الذى يمنيهم به.
نقل رجال سيناء تفاصيل ما جرى والمخطط الإسرائيلى بالكامل للمخابرات المصرية، وكانت فرصة لا تفوت لتلقين دولة الاحتلال درساً لا تنساه.
كلف الضابط السيناوى محمد اليمانى بالمهمة وفق تخطيط دقيق، طلب الضابط من المشايخ مجاراة إسرائيل والاستجابة لكل طلباتها، ورصدت الأجهزة كل الاتصالات التى تجريها إسرائيل بهذ الخصوص على المستويين المحلى والدولى، وافقت أمريكا وحلفاؤها مؤكدة دعم الانفصال وتدويل سيناء حال موافقة أهل سيناء فى مؤتمر معلن وبحضور وسائل الإعلام العالمى وهو ما وافق الهوى الإسرائيلى.
أبلغ عدد من شيوخ سيناء «ديان» بموافقتهم من حيث المبدأ، وإمعاناً فى الخداع أبلغوا أنهم بصدد الحصول على إجماع كل شيوخ القبائل.
حددت إسرائيل 31 أكتوبر عام 1968 موعداً نهائياً لمؤتمر إعلان الانفصال وتكوين «دولة سيناء «وهو ما رواه المرحوم سعيد لطفى المحامى الشهير، أحد مهندسى العملية: وكأنه يوم الزينة والإعلان الحقيقى عن نصر لا يعرفه أحد.. طائرات تحلق فى السماء ومصورو وكالات الأنباء وعشرات القنوات العالمية وكبار القيادات فى إسرائيل يتوافدون جواً على مكان التجمع بمنطقة الحسنة من أجل اللحظة الحاسمة.. فيما كان هناك بعيداً من يحرك الأحداث ويعد الضربة.. المخابرات المصرية تنقض على المحاولة الإسرائيلية وتحولها إلى هزيمة نكراء.
فوض مشايخ سيناء سالم الهرش، شيخ قبيلة البياضية، للحديث أمام الإسرائيليين فقال: أترضون بما أقول؟ فقالوا: نعم. وبينما «موشيه» ينتظر لحظة التدويل قال «الهرش»:
إن سيناء مصرية وقطعة من مصر ولا نرضى بديلاً عن مصر وما أنتم إلا احتلال.. نرفض التدويل، سيناء مصرية مائة فى المائة ولا نملك فيها شبراً واحداً يمكننا التفريط فيه ومن يريد أن يتحدث بشأنها فليتحدث للرئيس «جمال عبدالناصر».
قبلها بآلاف السنين اعتاد ملوك الفراعنة زيارة معبد «سرابيط الخادم» فى سيناء كأحد طقوس توليهم عرش مصر، وعلى نقش فى منطقة جبلية نحو 4 كم إلى الشمال من خليج العقبة سطر الفرعون العظيم رمسيس الثالث «جد سكان الأرض» قصة حب أزلية ربطت الحاكم بأرضه، وهو ما كتبه فى بردية هاريس التى نصها: بعثت برجال البلاط والحكام إلى أرض الفيروز، إلى أمى حتحور سيدة الفيروز.
أرض القمر أودعها الله «سر التجلى» كما أودعها المصريون القدماء سر البقاء مصرية مهما دارت بها الدوائر.. إنه سر الأوطان الذى جاء فى قصيدة «اغضب» للشاعر فاروق جويدة: إن للأوطان سراً لا يعرفه أحد.. عدا مصر التى أودعت سرها قلوب وصدور أبنائها.